واجتماع الناس عندها، وإظهار الخضوع والاستكانة وسؤال الحوائج، والدعاء من صميم القلب ثم ورث الأخر الأول، وتبع الخلف السلف، واقتدى اللاحق بالسابق، فتفاقم الأمر وتزايد الشر وعظمت المحنة، واشتدت البلية، وصار في كل قطر من الأقطار بل في كل مدينه من المدائن بل في كل قرية من القرى جماعة من الأموات يعتقدهم الأحياء ويعكفون على قبورهم وينتسبون إليهم، وصار ذلك عندهم أمرا مأنوسا مألوفا تنبسط إليه نفوسهم وتقبله عقولهم وتستحسنه أذهانهم، فيولد المولود ويكون أول ما يقرع سمعه عند فهم الخطاب هو النداء لأهل تلك القبور من أبويه وغيرهما، وإذا عثر صرخ من يراه باسم واحد من المعتقَدين في ذلك المكان، وإذا مرض نذر من يحب شفاءه بجزء من ماله لذلك الميت، وإذا أراد حاجة توسل إلى صاحب ذلك القبر برشوة يبذلها للعاكفين على قبره المحتالين على الناس به، ثم يكبر ذلك المولود وقد ارتسم في فكره وتقرر عنده ما يسمعه من أبويه لما في ذلك من التأثير في طبع الصغير، ولهذا قال الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"(١).
فاعرف هذا وافهم هذا السر المصطفوي، فإن الصبي ينطبع بطبع من يتولى تربيته ويسري إلى أخلاقه ما هو من أخلاق أبويه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم ينفصل هذا الصغير عن أبويه ويفارق عشه الذي دب فيه ودرج منه، فيجد الناس على ذلك الأمر الذي سمع أبويه عليه وقد يكون أول ممشى يمشيه ومكان يعرفه [٢٠] بعد مكانه الذي ولد فيه هو قبر من تلك القبور المعتقَدَة، ومشهد من هذه المشاهد التي ابتلي الناس بها فيجد عنده الزحام والضجيج والصراخ والنداء من أبيه ومن هو من أمثاله وأكبر منه فينضم إلى ذلك الاعتقاد الذي قد تلقنه من أبويه ما يوجب تأكيده وتأييده وتشديده،
(١) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (١٣٨٥) ومسلم في صحيحه رقم (٢٦٥٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.