للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سجود التلاوة في الصلاة، حيث يقول مثلا الشافعي: "سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للتلاوة في صلاة الفجر" (١). فيقول المخالف له: زيادة على القطعي، وهي لا


(١) أخرجه البخاري رقم (١٠٧٨) ومسلم رقم (١١٠/ ٥٧٨) من حديث أبي رافع، قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: (إذا السماء انشقت) [الانشقاق: ١] فسجد فقلت: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
قال ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (١/ ٥١٦ وما بعدها) فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب.
وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب، وسبب الخلاف: اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود، والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) [مريم: ٥٨].
هل هي محمولة على الوجوب أم على الندب؟ فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة، فنزل وسجد الناس، فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها، تهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلا أن نشاء، قالوا: وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة.
وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال: "كنت أقرأ القرآن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأت سورة الحج، فلم يسجد ولم نسجد".
أخرجه البخاري رقم (١٠٧٢ و١٠٧٣) ومسلم رقم (١٠٦/ ٥٧٧) وأبو داود رقم (١٤٠٤) والترمذي رقم (٥٧٦) والنسائي (٢/ ١٦٠) والدارقطني (١/ ٤١٠ رقم ١٥) والبيهقي (٢/ ٣٢٠ - ٣٢١).
وكذلك أيضًا يحتج لهؤلاء بما روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لم يسجد في المفصل" أخرجه أبو داود رقم (١٤٠٣) من حديث ابن عباس، وهو حديث ضعيف.
وبما روي أنه سجد فيها، لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي ألا يكون السجود واجبا، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى، من قال: إنه سجد، ومن قال: إنه لم يسجد.
وأما أبو حنيفة: فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب، والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر، وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة، أعني: قراءة آية السجود.
قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة، لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود.
ولأبي حنيفة أن يقول: قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر، وذلك في أكثر المواضع، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة - أعني: عند التلاوة - وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود، كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخرى، وأيضا فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سجد فيها، فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها - أعني أنه عند التلاوة - فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه" اهـ.