للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه، ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم" إلى آخر الحديث. انتهى ما ذكره الحافظ في الفتح (١).

ولا يخفى عليك أن تفسير المشتبهات بكل واحد من التفسيرين الأولين صحيح، لأنه يصدق على كل واحد [٦] منهما أنه مشتبه، وبيانه: أن ما تعارضت فيه الأدلة، ولم يتميز للناظر فيها الراجح من المرجوح، لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين، لأن الأمر الذي تعارضت أدلته، وخفي راجحه من مرجوحه لم يتبين أمره بلا ريب؛ إذ المتبين هو ما لم يبق فيه إشكال، وما تعارضت أدلته فيه أعظم الإشكال، وهكذا ما اختلف فيه العلماء، لكن بالنسبة إلى المقلد، لأنه لا يعرف الحق والباطل، ويميز بينهما إلا بواسطة أقوال أهل العلم الذين يأخذ عنهم ويقلدهم، وليست له من الملكة العلمية ما يقتدر به على الوصول إلى دلائل المسائل، ومعرفة العالي منها والسافل. فإذا اختلف عالمان في شيء، فقال أحدهما: إنه حلال. وقال الآخر: إنه حرام، وكان كل واحد منهما بمحل من العلم يساوي الآخر في اعتقاد المقلد، فلا شك ولا ريب أن هذا الشيء الذي اختلف فيه هذان العالمان، فقال أحدهما: حلال، وقال الآخر: حرام؛ لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين بالنسبة إلى ذلك المقلد.

وكل شيء لا يصح أن يكون أحد هذين الأمرين لا ريب أنه من المشتبهات. فإن قلت: فماذا يصنع هذا المقلد عند هذا الاختلاف؟ إن قلت يتورع ويقف عند هذه الشبهة استلزم ذلك أن يترك أكثر الأحكام الشرعية، بل جميعها إلا القليل النادر؛ إذ أكثر المسائل الشرعية قد وقع الاختلاف فيها بين أهل العلم، فهذا يثبت هذا الحكم، وهذا ينفيه، وهذا يحلله، وهذا يحرمه؟.

قلت: ليس المراد بالوقوف عند الشبهات أن يترك القولين جميعا، بل المراد الأخذ بما


(١) (١/ ١٢٨).