للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالوقوف عنده، واستبرأ لعرضه ودينه، والله - سبحانه - لا يضيع ترك تارك كما لا يضيع عمل عامل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (١).

وكما أن الورع قد يكون في الترك (٢) فقد يكون في الفعل مثلا: لو تعارضت عند


(١) [الزلزلة: ٧ - ٨].
(٢) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (١٧/ ٣٨٥): وأما في الواجبات فيقع الغلط في الورع من ثلاث جهات:
أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة. ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم أو معاملة خاسرة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا. ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار، فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج، والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة.
الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها. فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة. فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) [النجم: ٢٣].
وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات - فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم، وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي السلطان، لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة.
وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع، وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا.
وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب، بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب، وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
ومن هذا الباب الذي ذمه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال: "ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم" وفي رواية: "أخشاهم وأعلمهم بحدوده له".
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.
الثالثة: جهة المعارض الراجح، هذا أصعب من الذي قبله، فإن الشيء قد يكون جهة فساده تقتضي تركه.
وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط، وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه، فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب".
وقال ابن تيمية (٢١/ ٣١٠ - ٣١١): "إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام، بخلاف ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور، وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي.
ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين، وله ديون فيها شبهة أيقضيها ولده؟ فقال: أيدع ذمة أبيه مرهونة؟ وهذا جواب سديد، فإن قضاء الدين واجب، وترك الواجب سبب للعقاب، فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب، ويحتمل أن لا يكون .. " اهـ.