للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصل: «التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نصِّ أعلم منه» (١) اهـ وهذا قد دل دلالة أوضح من شمس النهار على أن التقليد لا يجوز لرجل قد بلغ رتبة (٢)


(١) انظر: شرح الأزهار لابن مفتاح (١/ ٦).
(٢) محل النزاع أمور ثلاثة:
أولًا: أنه المجتهد إذا فرغ من الاجتهاد في مسألة معينة، وغلب على ظنه حكم فإنه لا يجوز له أن يقلد غيره من المخالفين له في الرأي، ويترك نظر نفسه، ويعمل بنظر غيره، هذا بالاتفاق.
ثانيًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة، فإن كان عاجزًا عن الاجتهاد فإنه كالعامي يجوز له تقليد غيره، وهذا ليس مجتهدًا.
ثالثًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة لكنه ليس بعاجز عن الاجتهاد الجزئي، أي: هو متمكن من الاجتهاد في بعض الأمور، وعاجز عن الاجتهاد في البعض الآخر، ولا يقدر على هذا البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو -مثلًا- في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد.
فهذا من حيث حصوله على بعض العلوم واستقلاله بها يشبه المجتهد. ومن حيث أنه لم يصحل هذا العلم فيشبه العامي. فهل يلحق بالمجتهد أو بالعامي؟ فقد اختلف في ذلك على مذهبين:
أصح المذهبين: أنه يشبه العامي، لأنه كما أن المجتهد يتمكن من تحصيل العلم الذي لم يحصله، كذلك يمكن للعامي أن يحصِّل العلم مع المشقة فلا فرق هنا.
رابعًا: إذا كان هناك مجتهد صارت عند العلوم حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، دون أن يحتاج في تحصيله إلى تعب كثير لو بحث في مسألة معينة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره، فهل يجب على هذا الاجتهاد، أم يجوز له أن يقلد غيره؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب.
المذهب الأول: ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به، لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره.
وهو مذهب الأئمة الأربعة وذهب إليه الجمهور العلماء من فقهاء وأصوليين.
المذهب الثاني: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا سواء كان أعلم منه أو مثله، وسواء كان م الصحة أو من غيره، مع ضيق الوقت أو سعته.
حكى هذا المذهب عن سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه وهو رواية عن الإمام أحمد.
المذهب الثالث: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر أعلم منه إذا تعذر عليه الاجتهاد. ذهب إلى ذلك ابن سريج ونقله القاضي في التقريب عن محمد بن الحسن.
المذهب الرابع: يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة إذا كان قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم.
نقل هذا عن الشافعي في القديم.
المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة والواحد من التابعين دون من عداهم.
المذهب السادس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر فيما يخصه دون ما يفتي به.
المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا إذا خشي أن يفوت الوقت ولو اشتغل بالاجتهاد.
ولكل واحد من تلك المذاهب أدلة وتعليلات ولكن الراجح هو المذهب الاول وهو: أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا.
انظر: «البحر المحيط» (٦/ ٢٨٥ - ٢٨٨)، «المستصفى» (٢/ ٣٨٤) «جمع الجوامع» (٢/ ٣٩٣) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ٢٠٤) «البرهان» للجويني (٢/ ١٣٣٩).