للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنها هذا الموضع المذكور في القضاء، وإن قلتم إنكم أنكرتم عليه لشيء آخر فما هو؟ فإنكم مقلدون. وإن أبيتم وصممتم على الباطل، ولم ترجعوا إلى الحق وقلتم هذا عندم غير جائز مجازفة وجرأة ومخالفة، فالأمر كما قال الشاعر:

يقولون هذا عندنا غير جائز ... من أنتم حتى يكون لكم عنده

وقد صان الله - سبحانه- الراسخين في علم الفروع عن الوقوع في هذه المنكرات، فهم أتقى لله من أن يجري منهم مثل هذا، ولكن عليهم أن يفكوا عن تكدر هذا المورد العذب من الجهلة والتهور والعصبية على خلاف ما يفيده المذهب، ولا يقتضيه الدليل.

الأمر السادس [٤أ] من تلك الأمور أن في الأزهار، وبعد الالتزام بحرمة الانتقال وأنتم ملتزمون لما في الأزهار عاملون به، ثم تهافت كثير منكم على تولي القضاء وهو يعلم أنه مقلَّد، وأنه لابد أن يكون القاضي مجتهدًا على مقتضى المذهب، فما بالهم وقعوا في مخالفة المذهب، وباشروا ما يباشر القضاة من قطع الأقوال بين أهل الخصومات، وسسفك الدماء، وتحليل الفروج! فإن كان الأزهار حقًا فقضاءهم باطل قد عصوا الله بالدخول فيه، ثم عقبوهن بالمباشرة لما يباشره القضاة، وصار ذلك في أعناقهم، يسألهم الله عنه ويعاقبهم عليه، ولم يقعوا في ذلك إلا لتأثير الدنيا، والتهافت على حطامها، ومن ترك مذهبه لمحبة الدنيا فكيف ينكر من هو صحيح القضاء على الكتاب والسنة، وعلى المذهب! وهل هذا الأمر قلب للأمورن ودفع للحقائق، ومن علامات القيامة.

يا ناعي الإسلام قم فانعه ... قد زال عرف وبدا منكر

ومعلوم لكل عارف أن أهل البيت إنما اشترطوا أن يكون القاضي مجتهدًا، لأن المجتهد هو الذي يعرف الحق ويعرف الباطل بالدليل من الكتاب والسنة، فهو الذي يقضي بالحق، وهو يعلم به، وهو القاضي الذي في الجنة، كما في حديث: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فالقاضي الذي في الجنة هو الذي قضى بالحق، وهو يعلم، والقاضيان الذين هما في النار هو القاضي الذي قضى بالباطل، والقاضي الذي يقضي بالحق وهو لا يعلم أنه الحق» (١).

فالمقلد - أصلحه الله- هو الذي لا يعرف الأقوال العامة من دون أن يطالبه بحجة ت دل على قوله، فهو لا يدري هل هو حق أو باطل، فإن قضى بقول إمامه فعلى فرض أنه حق في نفس الأمر فالمقلد لا يدري أنه حق، فقد قضى [٤ب] بالحق ولا يدري أنه حق، فهو أحد قاضيي النار. وعلى فرض أن ذلك القول غير حق فقد قضى بالباطل وهو القاضي الآخر من قضاة النار.

خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق

أمَّا القاضي المجتهد فهو متردد بين أمرين حسنين، وتجارة رابحة، وفوز معلوم لما صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (٢) وقد عرفنا فيما سبق أنها وردت أحاديث من طرق فتنتهض بمجموعها أن للمصيب في حكمة عشرة (٣). أجور. فيالها من غنيمة باردة، وخير كثير، وأجر جليل! والعجب كل العجب أن ينكر قاضي النار على قاضي الجنة، ويطلب منه أن يرجع من الاجتهاد إلى التقليد فيكون مثله من قضاة النار -نسأل الله الستر والسلامة-.

وإذا تقرر لك ما ذكرناه من كون السبب لاشتراط أهل المذهب الاجتهاد في القاضي هو أن المقلد في قضائه على كلا حالتيه، وفي جميع وصفيّة من قضاة النار بحكم النبي المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأيضًا القرآنية مشتملة على الأخذ على القضاة بأن يقضوا بالحق (٤)،


(١) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(٢) تقدم شرحه.
(٣) تقدم تخريجه مراراً
(٤) قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد. بما نسوا يوم الحساب} [ص: ٢٦]