للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأنكم لا تطالبون بحجة فضلًا عن أن تعقلوا الحجج، وتعرفوا الموازنة بينها عند تعارضها. فارجعوا -يرحمكم الله- إلى الصوا فقد وضح الصبح لذي عينين. وإن قلتم لا نرجع بل نستمر على ما نحن فيه من الباطل فحسبكم ما تستلزمه هذه المقالة الشنعاء من غضب الله شعرًا:

لا تنته الأنفس عن غيِّها ... ما لم يكن منها لها زاجر

فإن قلتم: تركنا الأزهار المشتمل على تصويب المجتهدين، وعدم جواز التقليد منهم لغيرهم بما هو راجحٌ منه. قلنا لهم: ومتى كنتم من أهل الطبقة الشريفة، والمنقبة المنيفة! فإنّ هذا إنما هو مقام المجتهدين الذين قمتم على الإنكار عليهم بسبب مخالفة المذهب شعرًا:

يقولون أقوالاً ولا يعرفونها ... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

وكان عليكم أن تكفوا شركم عن المجتهدين، وتسوغِّوا لهم ما سوغتم لأنفسكم من المخالفة. فالاجتهاد كما فعلتم بمجرد التقليد، ولا أظن أن تدعوا ذلك قط، فإنكم تعرفون أنفسكم ومقدار ما لكم من العلم، ولا يدعون الخروج عن التقليد قيد شبر، ولا


وزن خردلة. وكما قال الشاعر (١):
وما أنا إلا من غزية إلا غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكان [٣ب] الأليق لكم، والأجمل لحالكم أن تسألوا المتورعين من علماء الفروع، وتستفتوهم: هل هذا الإنكار على المجتهدين مما يسوغه أهل الفروع الذي أنتم بصدد الاشتغال به درسًا وتدريسًا، وإفتاءً وقضاءً، فإنهم لا محالة ينكرون عليكم، ويعرفونكم بأنكم على جهل عظيم، وإثم وبيل، وحرام دخيل، وهتك يقول:
هذا الليل صبح ... أيعمى المبصرون عن الضياء
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
الأمر الخامس: من تلك الأمور قد عرفتم أن الاجتهاد معتبرٌ في القاضي، وأنه لا يصلح للقضاء (٢) إلا من كان مجتهدًا كما صرح في الأزهار في باب القضاء حيث قال: والاجتهاد «في الأصح» فما بالكم تنكرون على القاضي الذي يقضي بالاجتهاد، وهو من اهل الاجتهاد! مع أنكم تعترفون بأنه القاضي على شرط المذهب، وأن من ليس بمجتهد ليس يقاضي على شرط المذهب، ومع أنك لا تنكرون أنه لو قضى المجتهد بغير اجتهاده، ورجع إلى التقليد الذي أنتم عليه لكان فاعلًا لغير ما هو جائزٌ عندكم، فكيف طلبتم منه أن يخالف ما تذهبون إليه وتقررونه وتدرسونه (٣)! فأخبروني ما بالكم تخالفون المذهب في إنكاركم على من هو على شرطه، وأن من هو دونه لا يصلح للقضاء إن قلتم أن عليه سائغًا لكم في المذهب! فالمذهب يرد عليكم في مواضع متعددةٍ قد قدمنا ذكرها.
(١) هو دريد بن الصمة عزاه إليه صاحب «اللسان» (١٠/ ٦٨). وقال غزية: قبيلة من قبائل العرب.
(٢) تقدم التعليق على ذلك في الرسالة السابقة. وانظر: «إرشاد السائل إلى دليل المسائل» للإمام الشوكاني (ص ٢٣ - ٣٣).
(٣) مكررة في المخطوط.