- ومن يدرس قواعد الإثبات في الشريعة بإمعان سيلاحظ أن الشريعة رسمت بدقة ووضوح المبادئ والقواعد والطرق التي تمكن القاضي من تحصيل الواقع والوقوف على حقيقة الخصام وأن ما تحصل له من هذه الطرق والآليات يجب أن يحكم به ويكون حكمه فيه نافذًا واجب الطاعة طالما كان سليمًا من الخطأ والقصور. - وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة من أبرزها وما فصل الشارع في بسط أحكامها: الشهادة - الإقرار - اليمين، ولم ينازع أحد من فقهاء الإسلام في أن مؤدى هذه الأدلة هو الظن وأن الظن هو أقصى ما يتحصل منها، ومعنى ذلك أن الحد الأقصى لصلة القاضي بالواقع في فلسفة التشريع الإسلامي هو الظن، وأن هذا كاف للحكم عليه في اعتبار الشارع. - ومن المعروف أن هناك مستويين من الحقيقة في المستوى الأول تقع الحقيقة الواقعية، أي حقيقة ما حدث بين الخصمين فعلًا. وفي المستوى الثاني تقع الحقيقة القضائية أي ما تحصله القاضي بطرق الإثبات المرسومة له من الشريعة عن الحقيقة. ومن البديهي ألا تتفق الحقيقتان في بعض الحالات فتنفك الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية ويكون ما تحصل للقاضي من تلك الأدلة غير مطابق للواقع والبداهة هنا ترجع إلى أن القاضي ليس طليق الحرية في بحثه عن الحقيقة فيتحصل على الحقيقة بأي طريق شاء، وإنما هو ملزم أن يتوسل إليها بوسائل حددها لها الشارع وحدد له قيمتها الثبوتية ومن الذي يقدمها إليه، بل حدد له في الغالب الشكل الذي ينبغي أن تصب فيها تلك الطرق. - ولذلك نجد الشارع في حد الزنا يحدد أن الطرق إلى إثبات جرم الزنا هو الشهادة أو الإقرار، فإذا كان الطريق هو الشهادة فإن للشارع في ذلك قواعد وقيودًا وتفصيلات وليس أي شهادة تصلح طريقًا لإثبات الواقع في هذه الجريمة، فيقرر الشارع أن الشهادة المعتبرة يجب أن تكون من أربعة أشخاص وأن يكون هؤلاء ذكورًا فلا تقبل شهادة المرأة، وأن يكونوا أصولًا فلا يقبل الشارع أن يشهد بالزنا شاهد أخبره بالواقعة شاهد غيره وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالإيماء، بل إن الشارع حدد هنا حتى صيغة الشهادة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة لا سواها وإلا فلا تقبل وتفصيلات الشارع هنا لا حصر لها. - وبهذا النهج فإن القاضي لن يتحصل لأكثر من الحقيقة القضائية، وأن لا سبيل له إلى الحقيقة الواقعية وبما أن الشارع هو الذي رسم طريق الاستدلال ووسائل الإثبات، فإن معنى ذلك أن أقصى ما يطلبه من القاضي هو الحقيقة القضائية، وأنه غير مكلف بالبحث عن الحقيقة المطابقة للواقع، ومن ثم فإن الحقيقة الواقعية مستبعدة عند الشارع من عمل القاضي، وإلا لما قبل منه بها بديلًا وحينما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أقضي بما أسمع» إنما كان يشير إلى الأساس الذي تبني عليه الأحكام القضائية في التشريع الإسلامي وهو الحقيقة القضائية المتحصلة من الأدلة التي حددها الشارع وأن هذه قد تختلف عن حقيقة الواقع ولذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه ... » تقدم الحديث. والحديث واضح الدلالة في أن هذا الاختلاف لا أثر له. فلا يمنع من الحكم ولا يعيب فيه بعيب. - وعلى ذلك فإن تجويز الحكم بعلم القاضي طلبا لليقين والحصول على الحقيقة الواقعية لا يوافق روح التشريع الإسلامي وهو تكلف لم يطلبه الشارع ويأباه التشريع الإسلامي المتسم باليسر والتيسير. انظر: «المسائل المهمة فيما تعم به البلوى حكام الأمة» وهي ضمن «عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير» رقم (١١٤) بتحقيقي. «نيل الوطر» (٧/ ١٠٩)، «الوسيط في شرح القانون المدني» عبد الرزاق أحمد السنهوري (٩/ ١٥).