للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن من قال: المكانع من حكم الحاكم بعلمه: أنها وردت أسباب شرعية توجب على الحاكم الاقتصار عليها كالبينة، واليمين، والإقرار (١).

قلنا: أخبرنا ما الدليل على أن هذه الأسباب يجب الاقتصار عليها؟ ومن أين علمت ذلك؟ وما الذي أفادك هذا. فإنه لم يرد في شيء من هذه الأسباب أنه يجوز الحكم إلا بها، ولا يجوز الحكم بغيرها مما هو أولى منها. ولم نجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله حرفًا من ذلك، ولا رأينا فيهما صيغة تفيد الحصر، ولا يدعى عالم أنه قد ثبت عن الشارع ما يفيد أن هذه الاسباب الظنية هي طرق الحكم (٢) ولا طريق له غيرها؟ بل غاية ما هناك أن الشارع أوجب على عباده اتباع العلم، ومنعهم من اتباع الظن، ومقتهم على اتباعه، ثم وسع على عباده بتخصيص الأدلة الموجبة لاتباع العلم بهذه الأدلة الواردة في جواز الحكم بمجرد الظن.

فالحكم بالعلم موافق للأدلة من أدلة الكتاب والسنة، أعني الأدلة الموجبة لاتباع العلم، والنهي عن اقتفاء ما ليس بعلم، وموافق للأدلة المخصصة لذلك العموم - أعني الأدلة الدالة [٥أ] على جواز الحكم بالإقرار، والبينة، واليمين؛ لأن العلم - لا يشك عاقل - أنه قد أفاد ما أفادته هذه الأسباب من حصول الظن للحاكم، وزاد عليها بزيادة خرج بها عن مجرد التجوزي المحتمل، والراجح والمرجوح إلى الجزم والمطابقة.

فكيف يقول من له أدنى فهم، وعنده أيسر علم أنه يجوز للحاكم أن يحكم بمجرد ظنه المحتمل للطبلان، ومخالفة الواقع، ولا يجوز له أن يحكم بعلمه الجازم المطابق الثابت الذي لا يتعقبه بطلان، ولا يتبعه تغير؟!

وأين هذا القائل عن قوله -- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما صح عنه: «دعا ما يريبك إلى ما لا يريبك؟» (٣).


(١) تقدم مناقشة ذلك
(٢) تقدم الرد على ذلك.
(٣) أخرجه الترمذي رقم (٢٥١٨) والنسائي (٨/ ٣٢٧ - ٣٢٨) ابن حبان في صحيحه رقم (٧٢٠) والبيهقي في «شعب الإيمان» رقم (٥٧٤٧) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو حديث حسن.