للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والجاهل للأمر أحق بنسبته إليه من العالم؟

وهل قال عاقل من العقلاء أن الظن أرجح من العلم؟ وهل يوجد مثل هذا في دفتر من دفاتر العلم؟ وهل قد سبق إليه أحد؟

وهل خفي على هذا القائل ما ذكره أئمة الأصول والفروع، والمعقول والمسموع من الترجيح بين أقسام الظن، وتقديم القوي ممنها على الضعيف حتى كان الظن الغالب أقوى من الظن المطلق؟ والظن المقارب للعلم أقوى من الظن الغالب؟ فإذا كان الظن المقارب للعلم أرجح الظنون باعتبار قرية من العلم، فكيف لا يكون العلم أرجح منها!؟ وكيف يسعد [٦أ] بمزية الترجيح الظن المقارب له بسبب قربه منه! ويحرم هذه المزية العلم؟ وهل هذا إلا خروج عن العقل، وبعد من إدراك النوع الإنساني!؟

ثم نقول لهذا المانع: اعرض على عقلك - إن بقي لديك منه شيء - مسالك العلة المدونة في الأصول، وأجعل علة الحكم بالبينة والإقرار واليمين (١) في أي مسلك شئت منه.


(١) في هذه الرسالة نجد الشوكاني على عقيدة أن علم القاضي يفضي إلى اليقين القاطع بخلاف ما يتحصل له من الأدلة والبينات الأخرى غير علمه فهي إنما تفيد الظن.
فهل حقا أن علم القاضي مفاده اليقين القاطع في كل الأحوال؟ لا نظن ذلك، فنقول للشوكاني أن القاضي فيما علم كالشاهد فيما يعلم، أي أن الشاهد حين يروي في أقواله ما شاهده أو سمعه فإن مؤدى روايته بالنسبة له وحده اليقين لأنه قال ما وقف عليه بإ؛ دى حواسه، ولكن هذا اليقين مقصور عليه ولا يتعدى لغيره، إذ مؤدى ما قاله بالنسبة للغير الظن ولا أكثر.
وحال علم القاضي لا يخرج عن هذا الإطار فمؤاده القين بالنسبة للقاضي وحده، ولكنه بالنسبة لغيره لا يفيد أكثر من الظن لأنه لا يعد أنه رواية آحاد.
وعلى ذلك لا يمكن موافقة إطلاقات الشوكاني وهو يؤكد بتكرار أن مؤدى علم القاضي بالواقع اليقين القاطع وبصورة مطلقة فالتحليل الصحيح للفكرة أن هذا اليقين ليس كذلك بالنسبة لغير القاضي، وأنه يمكن أن يكون يقينًا بالنسبة للقاضي وحده، وعند هذا المستوى لا يتميز علم القاضي بأي راجحية عن علم الشاهد فإن يقنية علم القاضي كانت لا باعتبار صفته أي ليس باعتباره قاضيًا وإنما باعتباره الشخصي، ولذلك رأيناه سابقًا أنه تساوي في ذلك مع الشاهد. وبما أن القاضي ملزم بقضائه قواعد الشريعة الإسلامية، ولا يملك أن يتجاوز في الإثبات ما رسمته له الشريعة من قواعد وتعاليم، ومعلوم أن تلك القواعد رواية الواحد لا تفيد إلا الظن إذا كان معروفًا بالصدق والضبط. وهذا الظن على حظ الحجية ضئيل جدًا بحيث أن هذه الرواية لا يعمل بها في كل حال، ففي بعض المواطن ينبغي إهمالها كما هو معروف.
وحيث أن القاضي ملزم بهذه القاعدة فليس أمامه إلا أن يطبقها في قضائه. ولا شك أن روايته للواقع أو لما شاهد حين يحكم هي في نظر الشريعة رواية آحاد مفادها الظن في أحسن الأحوال، وليس أمامه إلا أن يعتبر بما اعتبرها الشرع، وأن يزنها بميزانه فتعتبر ظنية كما يعتبرها الشرع ولا بأس أن تبقى يقينية بالنسبة له كشخص ولكن لا يملكن أن يعتبرها كذلك بالنسبة له كقاض.
والقاضي هنا كالشاهد، فلو فرضنا أن شخصا شاهد آخرًا يقتل مسلمًا أمام عينيه، ثم شهد في المحكمة بما رأى ولكن القاضي حكم في المسألة بعلمه، وقضي بقتل شخص آخر غير من شهد به الشاهد استنادًا إلى أنه رأى هذا يقتل المجني عليه.
وعند تنفيذ الحكم بالقتل أمر القاضي بالشاهد - وهو بالمصادفة المختص بذلك - بقتل الآخر والشاهد يقتل يقينا أن المحكوم عليه بريء وأن القاتل آخر، ترى ماذا يصنع هذا السجان؟ هل يطيع أمر القاضي وحكمه؟ أم يرفض اعتمادًا على يقينه الشخصي؟
نجد الشوكاني يوافق المذهب الزيدي في هذه المسألة ويرى أن على هذا الشاهد أن يمتنع عن التنفيذ طاعة لأمر القاضي لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويقول الشوكاني في «السيل الجرار» (٤/ ٢٩٨): «عليه أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه، فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الادلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط».
ودلالة ذلك أن حكم القاضي بعلمه ليس بدرجة اليقين القاطع بصورة مطلقة، وأن الحجية فيه نسبية، ولذلك أوجب الشوكاني على من علم يقينًا بخلاف علم القاضي أن يرجح علمه على علم القاضي فلا ينفذ ما أمر به.