للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في مستدرك الحاكم (١) من حديث عبد لله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: ألم تعلم أن الطلاق ثلاثا كن يرددن على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم (٢): هذا حديث صحيح. وهذه غير طريقة طاوس عن أبي الصهباء.

وقد أخرج حديث ابن عباس هذا الشافعي (٣)، وعبد الرزاق (٤)، والنسائي (٥) والبيهقي (٦).


(١) (٢/ ١٦٩).
(٢) في " المستدرك " (٢/ ١٦٩).
(٣) في مسنده (٢/ ٣٧ رقم ١١٦ - ترتيب).
(٤) في مصنفه (٣/ ٦٨٤).
(٥) (٦/ ١٤٢).
(٦) في " السنن الكبرى " (٧/ ٣٦٧).
قال القرطبي في " المفهم " (٤/ ٢٣٩ - ٢٤٢): حديث ابن عباس هذا يدل ظاهرا على أنه كن الطلاق ثلاثا واقعا لازما في تلك الأعصار، فيستدل به عليهم على جهة الإلزام، وإن كنا لا نرى التمسك به، لما يلي:
١) أنه ليس حديثا مرفوعًا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعصر أبي بكر باتفاقهم على ذلك وإجماعهم عليه، وليس ذلك بصحيح، فأول من خالف ذلك بفتياه ابن عباس، فروى أبو داود - رقم ٢١٩٧ - من رواية مجاهد عنه قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم يركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] وإنك لم تتق الله، فما أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.
وفي " الموطأ "- (٢/ ٥٥٠) - عنه: أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مئة تطليقة، فقال له ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبعة وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا، وقال أبو داود: قول ابن عباس هو: إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، مدخولا بها كانت، أو غير مدهول بها. ونحوه عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر. وفي " الموطأ ": أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. قال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها بانت منك، قال ابن مسعود: صدقوا، هو كما يقولون، فهذا يدل على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة، وأن المشهور عندهم، المعمول به خلاف مقتضى حديث ابن عباس، فبطل التمسك به.
٢) لو سلمنا أنه حديث مرفوع للنبس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان فيه حجة لأن ابن عباس هو راوي الحديث وقد خالفه بعمله وفتياه، وهذا يدل: على ناسخ ثبت عنده، أو مانع شرعي منعه من العمل. ولا يصح أن يظن به: أنه ترك العمل بما رواه مجانا أو غالطا، لما علم من جلالته، وورعه، وحفظه وتثبته. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر عن ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثا من كلمة واحدة: ما كان ابن عباس ليخالف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاووس وهن وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، والمشرق، والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.
٣) لو سلمنا كل ما تقدم لما كان فيه حجة للاضطراب والاختلاف الذي في سنده، ومتنه، وذلك أن أبا الصهباء رواه عن ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة، التي وقعت في كتاب مسلم: كما ذكرناها ,
وقد روى أبو داود من حديث أيوب عن غير واحد عن طاووس: أن رجلا يقال له أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس ..... " الحديث تقدم.
قال القرطبي: فقد اضطرب فيه أبو الصهباء عن ابن عباس في لفظه كما ترى. وقد اضطرب فيه طاووس، فمرة رواه عن أبي الصهباء، ومرة عن ابن عباس نفسه، ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الثقة لا سيما عند المعارضة على ما يأتي. ثم العجب أن معمرا روى عن ابن طاووس عن أبيه: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فقال له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا. وظاهر هذا أنه لا مخرج له من ذلك، وأنها. وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن ابن عباس، كسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، ومحمد بن إلياس بن البكير، والنعمان بن أبي عياش، كلهم روى عنه: أنه ثلاث، وأنها لا تحل له إلا من زوج.
٤) لو سلمنا سلامته من الاضطراب لما صح أن يحتج به لأنه لا يلزم منه ما يدل على أن أهل ذلك العصر الكريم كان يكثر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها. وترك الإنكار على من يرتكبها، وبيان اللزوم أن ظاهره أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقع الطلاق الثلاث كثيرا منهم في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعصر أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أو ثلاث، ويستفتون علماءهم فيفتونهم بأنه واحدة، ولا ينكرون عليهم.
مع أن الطلاق ثلاثا في كلمة واحدة محرم بدليل قول ابن عمر وابن عباس، عن محمود بن لبيد - قال البخاري: له صحبة - قال: أخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال: " أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " هذا يدل على أنه محرم، ومنكر. فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا، ولا ينكرونه؟ هذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١١٠] إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به. لا يقال: هذا يبطل بما وقع عندهم من الزنى والسرقة وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام؛ لأنا نقول: هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور، وأقاموا الحدود فيها، ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه، فافترقا. وصح ما أبديناه. فإن قيل: لعل تحريم ذلك لم يكن معلوما عندهم. قلنا: هذا باطل، فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم، وقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس وابن عمر. والله تعالى أعلم.
٥) إن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم، والعادة تقتضي - فيما كان هذا سبيله - أن يفشو، وينتشر ويتواتر نقله، وتحيل أن ينفرد به الواحد.
ولم ينقله عنهم إلا ابن عباس، ولا عنه إلا أبو الصهباء. وما رواه طاووس عن ابن عباس في الأصل قد رواه أبو داود عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه من كونه خبر واحد غير مشهور. وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر. فإن لم يقتض ذلك، فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف. والله تعالى أعلم.
٦) تطرق التأويل إليه. ولعلمائنا فيه تأويلان:
أحدهما: ما قاله بعض البغداديين: إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنة الطلاق بإيقاع الثلاث، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين، فكأنه قال: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثا في ذينك العصرين واحدة. كما يقال: كان الشجاع الآن جبانا في عصر الصحابة، وكان الكريم الآن بخيلا في ذلك الوقت، فيفيد تغير الحال بالناس.
ثانيهما: قال غير البغداديين: المراد بذلك الحديث من تكرر الطلاق منه. فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنها كانت عندهم محمولة في العزم على التأكيد. فكانت واحدة. وصار الناس بعد ذلك يحلونها على التحديد. فألزموا ذلك لما ظهر قصدهم إليه. ويشهد بصحة هذا التأويل قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وقد تأوله غير علمائنا، على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدخول: كما دل عليه حديث أبي داود، الذي تقدم ذكره، وأبدى بين المدخول بها وغيرها فرقا. فقال: إنما جعلوه في غير المدخول بها: أنت طالق، وقد أبانها وبقي قوله: ثلاثا.
لم يصادف محلا. فأجروا المتصل مجرى المنفصل. وهذا ليس بشيء، فإن قوله: أنت طالق ثلاثا. كلام واحد متصل غير منفصل. ومن المحال البين إعطاء الشيء حكم نقيضه، وإلغاء بعض الكلام الواحد. وأشبه هذه التأويلات الثاني، على ما قررناه. والله تعالى أعلم.
وانظر " فتح الباري " (٩/ ٣٦٢ - ٣٦٧).