للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأحاديث بأجوبة، منها أن فيها المقال المتقدم، وقد أجيب عنهم في ذلك. واستيفاء الكلام في ذلك يحتاج إلى تطويل؛ لأنه راجع إلى علل حديثية وقواعد أصولية، وربما تشعب البحث إلى أطراف أخر يشغل ذهن السائل فنقول: قد تقرر في الأصول كما ذهب إليه الأقل.

وقصة سالم المذكورة مخصصة لعموم الأحاديث المعارضة لها، وبذلك يحصل الجمع بين جميع الأحاديث (١)، وهذه طريقة متوسطة لا إفراط فيها ولا تفريط.

وقد عرف من حديث سالم أن سبب الرخصة هو المشقة والحاجة كما في حديث سالم (٢).

ويؤيد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة (٣) كان بعد نزول آية الحجاب، وهي


(١) وهو أن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص، ولا عام في حق كل أحد، وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه، فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيص هذا الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له.
انظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (٣٤/ ٣١ - ٣٥)، " زاد المعاد " (٥/ ٥٢٧).
(٢) تقدم ذكر ذلك.
انظر: " فتح الباري " (٩/ ١٤٩).
(٣) قد اختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك:
١ - أنه منسوخ. وهذا مسلك كثير منهم، ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث. ولو قلت: أصحاب هذا القول عليهم الدعوى وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظير دعواهم.
وأما قولهم: إنها كانت من أول الهجرة، وحين نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: ٥].
ورواية ابن عباس رضي الله عنه، وأبي هريرة بعد ذلك، فجوابه من وجوه:
أ - أنهما لم يصرحا بسماعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل لم يسمع منه ابن عباس إلا دون العشرين حديثا، وسائرها عن الصحابة رضي الله عنهم.
ب - أن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تحتج واحدة منهن، بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بذلك، بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم، وعدم إلحاق غيره به.
ج - أن عائشة رضي الله عنها نفسها روت هذا وهذا، فلو كان حديث سهلة منسوخا، لكانت عائشة رضي الله عنها قد أخذت به، وتركت الناسخ، أو خفي عليها تقدمه مع كونها هي الراوية له، وكلاهما ممتنع في غاية البعد.
د - أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة، وكانت تعمل بها وتناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتها، فلها بها مزيد اعتناء، فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل كونه من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تذكره لها واحدة منهن.
٢ - أنه مخصوص بسالم دون من عداه. وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال القرطبي في " المفهم " (٤/ ١٨٨): وقد اعتضد الجمهور على الخصوصية بأمور، منها:
١ - قاعدة الرضاع، فإن الله تعالى قد قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: ٢٣٣]. فهذه أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه بمدة مؤثرة غير محتاج إليه عادة، فلا يعتبر شرعا؛ لأنه نادر، والنادر لا يحكم له بحكم المعتاد.
٢ - قاعدة تحريم الاطلاع على العورة، فإنه لا يختلف في أن ثدي الحرة عورة، وأنه لا يجوز الاطلاع عليه، لا يقال: يمكن أن يرضع ولا يطلع، لأنا نقول: نفس التقام حلمة الثدي بالفم اطلاع، فلا يجوز.
قال الحافظ في " الفتح " (٩/ ١٤٨): " وأجاب عياضا عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة.
وذلك أن الليث وأهل الظاهر قالوا أن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه ... ".
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (١٠/ ٣٠).
٣ - ومنها أنه مخالف لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الرضاعة من المجاعة " - تقدم تخريجه - وهذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقعيد قاعدة كلية، تصرح بأن الرضاعة المعتبرة في التحريم إنما هو في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما. وهو الأيام اليسيرة بعد الحولين عند مالك.
وقد اضطرب أصحابه في تحديدها، فالمكثر يقول: شهرا، وكأن مالكا يشير إلى أنه لا يفطم الصبي دفعة واحدة. في يوم واحد، بل في أيام وعلى تدريج، فتلك الأيام التي يحاول فيها فطامه حكمها حكم الحولين، لقضاء العادة بمعاودة الرضاع فيها.
وانظر " فتح الباري " (٩/ ١٤٨)، " زاد المعاد " (٥/ ٥٢٢ - ٥٢٣).
٣ - المسلك الثالث: تقدم ذكه. وهو الجمع بين هذه الأحاديث.
وانظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (٣٤/ ٣١ - ٣٥)، " زاد المعاد " (٥/ ٥٢٧)، " فتح الباري " (٩/ ١٤٩).