قال أبو عبيد: قوله: " إنما الرضاعة من المجاعة " يقول: إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن، إنما هو الصبي الرضيع. فأما الذي شبعه من جوعه الطعام، فإن رضاعه ليس برضاع، ومعنى الحديث: إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام، هذا تفسير أبي عبيد والناس، وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان، حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى وكشفها له، وإيضاحها، ومما يبين أن غير هذا التفسير خطأ , وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير أن لفظة " المجاعة " إنما تدل على رضاعة الصغير، فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها. ومعلوم يقينا أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم، فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا السامع، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت. وسياق قوله: لما رأى الرجل الكبير، فقال: " إنما الرضاعة من المجاعة " يبين المراد، وأنه إنما يحرم رضاعة من يجوع إلى لبن المرأة وكراهته لذلك الرجل، وقوله: " انظرن من إخوانكن " إنما هو للتحفظ في الرضاعة وأنها لا تحرم كل وقت، وإنما تحرم وقتا دون وقت، ولا يفهم أحد من هذا أنما الرضاعة ما كان عددها خمسا، فيعبر عن هذا بقوله: " من المجاعة " وهذا ضد البيان الذي كان عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقولكم: إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوع عن الصغير، كلام باطل؛ فإنه لا يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقوم مقام اللبن، فهو يطرد عنه الجوع. فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا. والذي يوضح هذا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد حقيقة المجاعة وإنما أراد مظنتها وزمنها، ولا شك أنه الصغر فإن أبيتم إلا الظاهرية، وأنه أراد حقيقتها، لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائع، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا.