قال الشافعي في " الأم " (٦/ ١٨٤): " وإذا اشترى الرجل ثمرة، فخلى بينه وبينها فأصابتها جائحة، فلا نحكم له على البائع أن يضع عنه من ثمنها شيئا ". قال الماوردي في " الحاوي " (٦/ ٢٤٦): وصورتها: في رجل باع ثمرة على رؤوس نخلها وسلمت إلى المشتري، فتلفت الجائحة قبل جدادها، فقد كان الشافعي في القديم: يذهب إلى أنها من ضمان بائعها. وأن هذا البيع باطل ورجح هذا القول في الجديد: وقال: تكون من ضمان المشتري فلا يبطل البيع بتلفها، وبه يقول أبو حنيفة والليث بن سعد. واستدل من جعل الجوائح مضمونة على البائع: ١ - حديث سفيان بن عيينة , عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن بيع السنين وأمره بوضع الجوائح " - تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. ٢ - وحديث بن جريح عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ". وقالوا: ولأن الثمر لا يتم قبضها إلا بجدها من نخلها بدليل أنها لو عطشت وأضر ذلك بها كان للمشتري الخيار في الفسخ بحدوث هذا العيب وما حدث من العيب بعد القبض لا يستحق به المشتري الخيار، وإذا دل ذلك على أنها غير مقبوضة، وجب أن تكون بالغة من مال بائعها، لأن ما لم يقبض مضمون على البائع دون المشتري. وقالوا: ولأن قبض الثمرة ملحق بها الدار المستأجرة، لأن العرف في الثمار أن تأخذ لقطة بعد لقطة، كما تستوفى منافع الدار مدة بعد مدة، فلما كان تلف الدار المستأجرة قبل مضي المدة مبطلا للإجارة وإن حصل التمكين، وجب أن يكون تلف الثمرة المبيعة قبل الجداد مبطلا للبيع وإن حصل التمكين. ودليل قول الشافعي في الجديد: به قال أبو حنيفة: أن الجوائح لا يضمنها البائع ولا يبطل بها البيع. وما رواه الشافعي عن مالك، عن حميد، عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل وما تزهي؟ قال: حتى تخمر ". أخرجه البخاري رقم (٢١٩٧، ٢١٦٨) ومسلم رقم (١٥٥٥)، والشافعي في مسنده (٢/ ١٤٥ - ١٥١) وابن ماجه رقم (٢٢١٧). وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ". تقدم تخريجه. فموضع الدلالة منه هو: أنه لو كانت الجائحة مضمونة على البائع لما استضر المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح، ولما كان لنهيه عنه حفظا لمال المشتري وجها، لأنه محفوظ إن تلف في الحالتين بالرجوع إلى البائع، فلما نهى في البيع عن الحالتين بالرجوع على البائع، فلما نهى عن البيع في الحال التي يخالف من الجائحة فيها، لئلا يؤخذ مال المشتري بغير حق، علم أن الجائحة لا تكون مضمونة على البائع، وأنها مضمونة فيما صح بيعه عن المشتري. وحديث عمرة بنت عبد الرحمن - مرسلا، ومستندا، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها، فسأل البائع أن يحطه شيئا فحلف بالله أن لا يفعل فأتت أمه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تألي فلانا أن لا يفعل خيرا ". أخرجه البخاري (٢٧٠٥) ومسلم رقم (١٥٥٧) وأحمد (٦/ ٦٩) ومالك (٢/ ٦٢١) وهو حديث صحيح. قيل: ولو كان واجبا لأجبره عليه، لأن التخلية يتعلق فيها جواز التصوف فتعلق بها بالضمان، كالنقل التحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره؟. انظر: " المغني " (٦/ ١٧٧). وروى الشافعي عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا اشترى ثمرا فأصيبه فيها فكثر دينه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ". - أخرجه مسلم رقم (١٨/ ١٥٥٦) وأبو داود رقم (٣٤٦٩) والترمذي رقم (٦٥٥) وابن ماجه رقم (٢٣٥٦) والنسائي (٧/ ٣١٢) وأحمد. وهو حديث صحيح. - فلو أن الجوائح مضمونة على المشتري لما أخرجه إلى الصدقة، وجعل لغرمائه ما وجدوه، ولكان يجعلها مضمونة على البائع ويضعها على المشتري. قال ابن قدامه في " المغني " (٦/ ١٧٧): ولنا ما روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضع الجوائح - تقدم وهو حديث صحيح. وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " تقدم. وحديث: " من باع ثمرا، فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا، على م يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ". هذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. قلنا الحديث ثابت رواه الأئمة منهم: الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلى بن حرب , وغيرهم عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق الجابر ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سنته وابن ماجه وغيرهم - وهو حديث صحيح -. ولا حجة لهم في حديثهم، فإن فعل الواجب خير فإذا لا تأتي أن لا يفعل الواجب، فقد تألي أن يفعل خيرا، فأما الأخيار فلا يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع، ولا حضور. ثم قال: ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض. بدليل المنافع في الإجازة يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها في شجرها، كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالا فحالا، وقياسهم ببطل التخلية في الإجازة. انظر " الحاوي الكبير " (٦/ ٢٤٦ - ٢٤٨)، " الأم " (٦/ ١٨٢ - ١٨٥). * وقال مالك رضي الله عنه: إن كان تلفها بجناية آدمي فهي من ضمان المشتري وإن كانت بجائحة من السماء، فإن كانت قدر الثلث فصاعدا فهي من ضمان البائع، وإن كانت دون الثلث فهي من ضمان المشتري. قال القرطبي في " المفهم " (٤/ ٤٢٥): أما تفريق المالك بين القليل والكثير فوجهه أن القليل معلوم الوقوع، بحكم العادة، إذ لا بد من سقوط شيء منه، وعفنه، وتتريبه، فكأن المشتري دخل عليه، ورضي به، وليس كذلك الكثير فإنه لم يدخل عله، فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم. وإذا لم يكن بد من فرق بينهما - فالقليل ما دون الثلث، والكثير: الثلث فما زاد، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثلث، والثلث كثير " أو كبير - أخرجه البخاري رقم (١٢٩٥) -ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة، أو ثلث الثمن؟ قولان: الأول لابن القاسم والثاني لأشهب. انظر: " الحاوي " (٦/ ٢٤٩). وقال ابن قدامه في: " المغني " (٦/ ١٨٩ - ١٨٠): أن ظاهر المذهب، أنه لا فرق بين قليل الحيلة وكثيرها إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه. قال أحمد: إني لا أقول في عشر ثمرات، ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف. الثلث، أو الربع، أو الخمس، توضع. وفى رواية أخرى، أن ما كان دون الثلث فهو ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، لأنه لا بد أن يأكل الطير منها. وتنشر الريح، ويسقط منها، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بين ذلك وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع قد اعتبره من مواضع منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم - فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة، فلهذا قدر به. ووجه الأول، عموم الأحاديث فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيه فيجيب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تلف منها من مال البائع، وإن كان قليلا، كالتي على وجه الأرض وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة، ولا يسمي جائحة، فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، وضع من الثمن بمقدار الذاهب. فإن تلف الجميع، بطل العقد، ويرجع المشتري بجميع الثمن. وأما الرواية الأخرى، فإنه يعتبر ثلث المبلغ، وقيل: ثلث القيمة فإن تلف الجميع، أو أكثر من الثلث، رجع بقيمة التالف كله من الثمن وإذا اختلفا في الجائحة أو قد ما أتلف، فالقول قول البائع، لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول وقول الغارم.