للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أو معناه. فإذا عرفتَ هذا علمت أن الأحكام الشرعية لا تخلو من أن يكون لجلب مصلحة، أو دفع مفسدة علمنا ما لم تكن معرفتُه من ذلك، وبعضُها جهلنا وجهَ الحكمة فيه، فصحَّ أن يكون التحجُّرُ بين أهل القرى لمصحلة، وهي حَقْنُ الدماء، وتسكين الفتن، وإمكان أن يتصل الضعيفُ بحقِّه في رعي مواشيه، لأنَّ ترك التحجُّر إبقاءه على الأصل قد جُرِّبَ واخْتُبِرَ لا تخلِّي عن القتل وغيره. وحصولُ المفسدة بالتحجر هي أهونُ منها مع عدم التحجُّر على الوجه المعروفُ، فدفعُ أعظمِ المفسدتين بأهونها وجه مصلحة.

فإن قلتَ: المجيبُ قد ذكر ما معناه أنهم يقوموا بالشريعة المطهرة، وأنه يؤدي التأديب الشرعي من تعدَّى، وما أُمِرْنا الإَّ بما جاء عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما روي أنَّ عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه شاكيًا من عدم إمكان تقويم الرعيةِ فقال في جوابه: "قومهم بكتاب الله، فإنْ قاموا وإلاَّ فلا أقامَهم الله تعالى".

قلتُ: نعم هذا هو الحقُّ الحقيق بأن يُتَّبَعَ، لكنَّ زمانَنَا قد فسد أكثرُ الناس فيه، وخرجوا عن قانون الشريعة المطهَّرةِ، ولو رامَ ذو الولاية ممن ولاَّه الإمام أنْ يقوِّمُهم وينتصفَ من ظالِمِهم لمظلومِهم لم يكنْه ذلك، خصوصًا هذا الزمن فإنَّها قد تغيَّرتِ الأحوالُ من قصرِ أكثر الأحكامِ في بلاد القبائل، ويميلونَ إلى الأحكام الطاغوتية، فبهذا التحجُّرِ يقلُّ التعدِّي والقتلُ والنذضهبُ وغيرُهما، ولم يعلِ المجيبُ ـ عافاه الله تعالى ـ ما عند الطّغام من رفض الأحكامِ، وأخْذِ الأموال، وقَتْلِ النفوسِ تعدِّيًا وظلمًا، وصار أقصى الأحكامِ عليهم في هذا الزمن من المتعذِّر، وشاهدُ الحال منفقةٌ في بلاد عَنْسٍ (١) [٢ب] أنَّ ثمة قريتين بينهما مراعي لكلٍّ ما قابل قريته، وما أحاط بها وبأموالها، ودفعَ كلَّ ما


(١) عَنس: بفتح العين ثم سين مهملة، ناحية واسعة غربي ذمار بمسافة ٤١ كم نسبها الأخباريون إلى عنس بن زيد بن أدد بن زُرعة بن سبأ الأصغر وهي من المناطق الغنية بالآثار القديمة.
انظر: "معجم البلدان والقبائل اليمنية" (ص٤٦٨). "البلدان اليمانية" (ص٢١٣).