(٢) اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا؟؟. إذا خصَّ بمبهم كما لو قال، فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف. ومحل الخلاف إذا خصَّ بمبين على أقوال: الأول: أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين. "الإحكام" (٢/ ٢٥٢ - ٢٥٤)، "التبصرة" (ص١٢٢)، "تيسير التحرير" (١/ ٣٠٨). قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص٤٦٦ - ٤٦٧): وهو الحقُّ الذي لا شك فيه ولا شبهة، لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل فيكون حجةً فيكل واحدٍ من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية، فإخراجُ البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به، ولو توقف كونه حجةً في البعض على كونه حجةً في الكل للزم الدَّور وهو محال. وأيضًا المقتضي للعمل به فيما بقي موجودٌ وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقودٌ فوجد المقتضي وعدما لمانع فوجب ثبوت الحكم. وأيضًا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع. الثاني: أنَّه ليس بحجة فيما بقي وإليه ذهب عيسى بن أبان وابو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق، وحكاه الغزالي عن القدرية. قال إمام الحرمين في "البرهان" (١/ ٤١٠): ذهب كثيرٌ من الفقهاء: الشافعية والمالكية والحنفية والجبائيُّ وابنه إلى الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصَّت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات. واستدلوا بأن معنى العموم حقيقةٌ غير مرادة مع تخصيص البعض، وسائر ما تحته من المراتب مجازاتٌ وإذا كانت الحقيقة غير مرادةٍ وتعددت المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها والباقي أحد المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها. قال الشوكاني: إنَّما يكون إذا كانت المجازات متساويةً ولا دليل على تعين أحدها. وما قدمنا من الأدلة في القول الأول دلت على حمله على الباقي فيصار إليه. الثالث: أنَّه إن خصَّ بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خصَّ بمنفصل فلا، بل يصير مجملاً. الرابع: أن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلّقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ٥]. لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين. وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العامّ ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلُّق به كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨]. لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب، والحرز وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلّقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ. وإليه ذهب أبو عبد الله البصريُّ. قال الشوكاني: ويجاب عنه بأن محلّ النزاع دلالةُ اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض أظهر منها في البعض الآخر ـ باعتبار أمر خارج ـ لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدالّ أصلاً وظاهرًا. الخامس: إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بينٌ قبل إخراج الذميّ وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: ٧٢]. فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار. قال الشوكاني: وليس هو بشيء ولم يدلّ عليه دليلٌ من عقل ولا نقل. السادس: أنه يجوز التمسك به في أقلّ الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيريِّ وقال إنَّه تحكُّمٌ. وقد استدلوا لهذا القول بأن أقلّ الجمع هو المتيقنُ، والباقي مشكوكٌ فيه. قال الشوكاني وردّ: بمنع كون الباقي مشكوكًا فيه لما تقدم من الأدلة. السابع: أنه يتمسك به في (واحد) فقط حكاه في "المنخول" (ص١٥٣) عن أبي هاشم وهو أشدُّ تحكمًا مما قبله. الثامن: الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغاايرًا لقول عيسى بن أبان ومن معه، وهو مدفوع بأن الوقف إنَّما يحسُن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هنا شيء من ذلك. انظر: "البحر المحيط" (٣/ ٢٧١)، "المستصفى" (٣/ ٢٥٤)، "تيسير التحرير" (١/ ٣١٣)، "إرشاد الفحول" (ص٤٦٥ - ٤٧٠).