(٢) تقدم تخريجه. انظر: "فتح الباري" (٤/ ٧٠). خلاصة: اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما: ما تسبَّب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاءُ المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج على نزاع فيما يصل من ثواب الحج. فعن محمد بن الحسن أنه إنّما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحجُّ للحاج، وعند عامة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح. واختلف في العبادات البدنية كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي. ومالك عدمُ وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [يس: ٥٤]. وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: ٢٨٦]. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده" ـ تقدم ـ. فأخبر أنّه إنّما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبَّب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: ١٠]. فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدلَّ على انتفاعه باستغفار الأحياء. وقد دل انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأُمة على الدعاء في صلاة الجنازة والأدعية التي وردت بها النسة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن ـ من حديث عثمان قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنّه الآن يُسأل" ـ أخرجه أبو داود رقم (٣٢٢١) وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور: وقد تقدم آنفًا. وكذلك وصول ثواب الصدقة ـ تقدم ذكر الأحاديث خلال الرسالة. وكذلك وصول ثواب الصوم. تقدمت أحاديثه. وذلك وصول ثواب الحج. وقد تقدمت أحاديثه. وكذلك أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ولو كان من أجنبي ومن غير تركته. تقدم ذكر الحديث. وكلّ ذلك جارٍ على قواعد الشرع وهو محضُ القياس، فإن الثواب حقٌّ العامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك تمام يمنع من هبة ماله له في حياته وإبرائه له من بعد وفاته. وقد نبَّه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية وقد نص الشارع عن وصول ثوابه إلى الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية. والجواب عمّا استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: ٣٩] وقد أجاب العلماء بأجوبة أصحها جوابان: ١ - أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد، ونكح الأزواج وأسدى الخير، وتودَّد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم ... ٢ - وهو أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى. فأخبر سبحانه أنّه لا يملك إلا سعيه وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: ٣٨ - ٣٩] آيتان محكمتان تقتضيان العدل الرباني. ١ - الأولى: تقتضي أنّه لا يُعاقِب أحدًا بجرم غيره، ولا يؤخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا. ٢ - الثانية: تقتضي أنّه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طعمه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى. وكذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: ٢٨٦] وقوله تعالى: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: ٥٤] على أن سياق هذه الآية على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره. فإنّه سبحانه قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: ٥٤]. انظر: "شرحا لعقيدة الطحاوية" (٢/ ٦٦٤ - ٦٧١) لعلي بن أبي العز "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (٢٤/ ٣٠٦، ٣١٣، ٣٢٤، ٣٦٦)، "الروح" لابن القيم (ص ١٥٩ - ١٩٣). وانظر: "البناية في شرح الهداية" (٥/ ٤٢٢ - ٤٢٨). "المجموع" (٥/ ٢٩٣)، "فتح الباري" (٤/ ٦٩ - ٧٠).