للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصحيحة (١) المصرِّحة بتحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضةِ، والتوعُّدِ على ذلك بأن من فعله فإنما يُجَرْجرُ (٢) به في بطنه نار جهنم لا يدلّ على إلحاق سائر الاستعمالات بهما، لا بفحوى الخطاب ولا بِلَحْنِهِ. ولا يدلُّ عليه بمطابقة، ولا تضمّن، ولا التزام. وهكذا لم يرِدْ ما يدلُّ على منع اتخاذ آنية الذهب والفضة لغير الأكل والشرب (٣)، وإنما


(١) منها: ما أخرجه البخاري رقم (٥٤٢٦) ومسلم رقم (٢٠٦٧) من حديث حذيفة قال: "سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنَّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
(٢) أي يحدر فيها نار جهنم، فجعل الشرب والجرع جرجرة، وهي صوت وقوع الماء في الجوف.
قال الزمخشري: يروى برفع النار، والأكثر النَّصب، وهذا القول مجاز، لأن نار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه، والجرجرةُ. صوت البعير عند الضجر، ولكنّه جعل صوت جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النذهي عنها واستحقاق العقاب علىاستعمالها كجرجرة نار جهنم في بطنه في طريق المجاز. هذا وجه رفع النار. ويكون قد ذكر يجرجر بالياء للفصل بينه وبين النار.
فأمّا على النّصب فالشارب هو الفاعل، والنّار مفعوله، يقال جرجر فلان الماء إذا جرعه جرعًا متواترًا له صوت. فالمعنى كأنّما يجرع نار جهنم. "
النهاية" (١/ ٢٥٥)، "فتح الباري" (١٠/ ٩٧).
(٣) قال القرطبي في "المفهم" (٥/ ٣٤٥): وهذا الحديث ـ أي حديث أم سلمة ـ دليل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويُلحق بهما ما في معناهما مثل: التطيُّب، والتكحُّل وما شابه ذلك وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. ورُوي عن بعض السلف إباحة ذلك، وهو خلاف شاذّ مطّرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب.
وانظر: "فتح الباري" (١٠/ ٩٧ - ٩٨).
- وقال القرطبي في "المفهم" (٥/ ٣٤٥ - ٣٤٦): ثم اختلف العلماء في تعليل المنع، فقيل: إن التحريم راجعٌ إلى عينهما. وهذا يشهد له قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هي لهم في الدنيا، ولنا في الآخر".
وقيل: ذلك مُعلّل بكونهما رؤوس الأثمان، وقيم المتلفات. فإذا اتخذ منهما الأواني قلّت في أيدي الناس، فيجحف ذلك بهم. وهذا كما حُرِّم فيهما رب الفضل، وقد حسّن الغزاليّ هذا المعنى، فقال: إنهما في الوجود كالحكّام الذين حقهم أن يتصرفوا في الأقطار ليظهروا العدل، فلو منعوا نم التصرّف والخروج للناس لأخلّ ذلك بهم، ولم يحصل عدلٌ في الوجود.
وصياغةُ الأواني من الذهب والفضة حبسٌ لهما عن التصرُّف الذي ينتفع به الناس.
وقيل: إنّ ذلك معلّل بالسّرف، والتشبُّه بالأعاجم.
قلت: ـ القرطبي ـ وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يلزم عليه أن يكون اتخاذُ تلك الأواني، واستعمالها مكروهًا، لأن غاية السّرف والتشبّه بالأعاجم أن يكون مكروهًا، والتهديد الذي اشتمل عليه الحديث المتقدم مفيدٌ للتحريم لا للكراهة.
وكلُّ ما ذكرناه من التحريم إنَّما هو في الاستعمال، وأما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة من غير استعمال: فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء: أن ذلك لا يجوز.
وذهبت طائفة من العلماء: إلى جواز اتخاذها دون استعمالها.
وفائدة هذا الخلاف بناء الخلاف عليه في قيمة ما أفسد منها، وجواز الاستئجار على عملها. فمن جوّز الاتخاذ، قوّم الصياغة على مفسدها. وجوّز أخذ الأجرة عليها. ومن منع الاتخاذ، منع هذين الفرعين.
فأما ما ضُبِّب من الأواني بذهبٍ، أو فضة أو كانت فيه حلقةٌ من ذهب أو فضةٍ. فذهب الجمهور إلى كراهة استعمال ذلك. وأجازه أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق إذا لم يجعل فمه على التضبيب أو الحلقة، وروي أيضًا مثله عن بعض السلف. قالوا: وهو كالعَلَم في الثواب والخاتم في اليد بشرب به، وقد استحبّ بعض العلماء الحلقةَ دون التضبيب.
انظر: "المغني" (١/ ١٠٣ - ١٠٥).