للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإن لم يكن في بلد المتخاصمين من هو كذلك وجبت إجابة الداعي إلى حاكم متصف بتلك الصفة، ولا اعتبار بمن في البلد من القضاة الذين لا يتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به، ومن كان هذا جوابه لم يرد عليه شيء مما أوردتم، فراجعوا ما أجبت به عليكم، فهو لديكم حتى تعلموا أن ما أوردتم هاهنا غير وارد عليَّ، ولا لازم لي، فهذا دفع إجمالي، ونقض لما أوردتم في هذا الكلام، فلنعد الآن إلى الكلام [١٢أ] على تفاصيل هذا الكلام.

فنقول: قلتم: وحكم الله في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد، والتعيين تحكم، وأقول: هو ممنوع؛ فإن حكم الله - سبحانه وتعالى - في تلك الحادثة وفي غيرها من الحوادث ليس إلا واحدًا يصيبه من أصابه من أهل الاجتهاد، ويخطئه من أخطأه. ولو كان حكم الله هو مظنون كل مجتهد لكان تابعًا لاجتهادات المجتهدين، ومرادات المريدين، وهو يستلزم أنه لا حكم لله في تلك الحادثة أصلا، بل حكمه فيها متجدد بوجود كل مجتهد على حسب ما يقتضيه اجتهاده، وهذا باطل وإن قال به بعض متأخري المعتزلة (١)، وقلده من قلده ممن جاء بعده، فمن جاء بالقول الفاسد فهو رد عليه


(١) قال الماوردي: وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص٨٥١): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال: إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا وخالف الصواب مخالفة ظاهرة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل المجتهدين قسمين قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئًا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر.
فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا.
انظر " الفقيه والمتفقه " (٢/ ٦٠)، " مجموع الفتاوى " (١٩/ ١٢٤).