للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دون بعض ... إلخ.

وأقول: هذه الكلية ممنوعة الصحة، فإن لمريد التوسع في المعارف الزائدة على العلوم المعتبرة في الاجتهاد مدخلا في ذلك، فقد يختص من هو أكثر علمًا باستنباط ما لا يقتدر على استنباطه والوصول إليه من هو دونه في ذلك، وهذا معلوم لكل عارف، فإن من كان مثلا أرسخ في علم البلاغة يمكنه أن يستخرج بفاضل عرفانه من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة ما لا يمكن من هو دونه، وهكذا من كان متبحرًا في أصول الفقه، مطلعًا على دقيقها وجليلها، متدربًا في مباحثها، فإنه يمكنه أن يسلك في مسالك الجمع والترجيح والاستنباط ما لا يسلكه الذي هو دونه في ذلك، مع كونه قد حصل القدر المعتبر في الاجتهاد عنده، وهكذا من توسع في علم السنة، ولم يقف على كتاب، ولا على كتب معينة، بل طول باعه في ذلك تطويلا لم يصل إليه غيره من المجتهدين المعاصرين له، أو بعضهم، فإنه قد يقف على دليل الحكم من مخرج صحيح أو حسن من هو دونه في ذلك لا يدري بأن الدليل موجود فضلا عن أن يستدل به، ومع ذلك فالقرائح مختلفة والأفهام متفاوتة، والإدراكات متباينة، فقد يكون بعض المجتهدين المستويين في المقروءات والمحفوظات أقدر على الاستنباط من الآخر بفاضل ذهنه، وصافي قريحته، وصحيح إدراكه، فكيف يقال: إن الاستنباط لا يختص به بعض العلماء دون بعض، فإن كل عالم قد شاهد الاختلاف في أهل عصره، وطالع مؤلفات المجتهدين فوجدها متفاوتة تفاوتًا يزيد على التفاوت الكائن بين السماء والأرض، والمشرق والمغرب، ومن أنكر هذا فهو مكابر بلا شك ولا شبهة.

وقلتم: وشروطه (١) هينة على من استعد للتحصيل ... إلخ.


(١) ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر بن الخطاب الذي كتبه إلى أبي موسى. قال الشيخ أبو إسحاق: هو أجل كتاب فإنه بين آداب القضاة، وصفة الحكم، وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس. ولفظه: " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة فاقض إذا فهمت وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف في عدلك.
البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالا. ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى. ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغضب والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتفكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق، يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا فما ظنك بثواب من الله تعالى في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام ".