للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يشاهده، بل عليه أن يحمد الله على السلامة والعافية.

وأما الاستناد في الأحكام الشرعية إلى الأعراف (١) [١٩ب] المألوفة فلا ينبغي أن ينسب ذلك إلى الشرع إلا في مثل حمل إقرار المقر، وحلف الحالف، ونحو ذلك من المحاولات على عرف بلده وتشابهه، فإن هذا له مدخل فيما يتعلق بالقضاء من هذه الحيثية، لا من حيث جعله دليلا للحكم؛ فإن ما وقع في كتب الأصول والفروع من الكلام على الأعراف (٢) لا يراد به إلا هذا، إلا في مثل تقديمهم مثلا لعرف الشرع على


(١) تقدم تعريف العرف والكلام عنه. انظر الرسالة رقم (١٢٨).
(٢) الاستعمالات الفقهية للعرف تنحصر في أربعة استعمالات وهي:
(أ): العرف الذي يكون دليلا على مشروعية الحكم ظاهرًا: وهو أن العرف يكون دليلا على الحكم ظاهرًا، والدليل في الحقيقة: ما رجع إليه من السنة أو الإجماع أو اعتبار المصالح أو أصل إباحة، أو غير ذلك من الأدلة، ومن أمثلته المعاملات، التصرفات التي بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس يعتادونها، ويتعاملون بها، فأقرهم عليها، كالمضاربة، والسلم والاستصناع، وكالقسامة.
(ب): العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث، والمراد من هذا النوع: الرجوع إلى العرف في إقامة الأحكام الكلية حال تطبيقها على جزئيات الحوادث .. فالفقيه إذا عرضت له حادثة، لم يرد من الشرع إلا حكم كلي مطلق يجمعها مع أمثالها ونظائرها " رجع في تطبيق هذا الحكم على هذه الحادثة الجزئية إلى تحكيم العرف والعوائد وضابط هذا النوع. وكليته الدالة عليه هي " كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ".
ومن أمثلة هذا الاستعمال العرفي الكبير: مالية الأشياء، التعزير وأسبابه - إحياء الموات ما يخل بالمروءة، وما يحقق شروط العدالة، الإذن في الضيافة، انتفاع المستأجر للعين المؤجرة بما جرت به العادة
ومن أمثلة الرجوع إليه فيما يقدر: الحيض، والطهر أقله وأكثره، ومدته أكثر مدة الحمل، سن اليأس.
ومما يندرج تحت هذا الاستعمال: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية، ومن أمثلته:
١ - صغر ضبة الفضة وكبرها، ثمن مثل، مهر مثل، كفء نكاح مؤنة، ونفقة وكسوة وسكنى.
فالعرف في كل هذه الأمثلة وتظافرها هو ضابط مطلقات الأحكام الكلية المستفادة من النصوص.
(ج): العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف: تجري بين الناس في تصرفاتهم عادات وأعراف دالة على الإذن في الشيء أو المنع منه أو تفيد الإلزام به، أو بيان نوعه أو قدره، وقد تكون قرينة تسوغ للشاهد أن يشهد، وللقاضي أن يقضي، وللمفتي أن يفتي.
فهذه الفوائد تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها .. ويكون للعرف الجاري بها قوة النطق باللفظ في اعتبار الشارع، يرتب عليه ما رتبه على الألفاظ من الأحكام، بمعنى أن قيام هذا النوع من العرف بين الناس يكون بمثابة نطق المتصرف، وإنما تركوا التلفظ به اتكالا على إفادة العرف له، وإعفاءً لأنفسهم من عمل تكلفت به طبيعة زمنهم.
ودليله من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي - رضي الله عنه - " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارًا ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه ... ".
فأنت ترى عروة - رضي الله عنه - اشترى شاتين وباع إحداهما بغير إذن لفظي وأقره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما ذاك إلا اعتمادًا من عروة على الإذن العرفي، فإن مما جرى به العرف أن الوكيل مأذون له في مخالفة موكله إلى خير مما أمره به.
(د): الاستعمال الرابع: العرف القولي:
أهم مجال يطبق فيه ويظهر فيه مداه الرحب الألفاظ المتعلقة بالتصرفات والعقود، ألفاظ الوصايا والأوقاف، الطلاق والعتاق، ذلك لما تقرر من أن كل متكلم إنما بقصد ما يتعارفه، وأن مطلق الكلام بين الناس ينصرف إلى المتعارف
انظر مزيد تفصيل: " الأشباه والنظائر " (ص٩٨)، " فتح الباري " (٤/ ٤٠٦)، " إعلام الموقعين " (٢/ ٣٩٣).