للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على منكر بتسميتها يمين عنت، لأنه يقال: هذا المنكر لكونه متعنتًا هو من جملة من يصدق عليه مفهوم الإنكار، وكل من يصدق عليه مفهوم الإنكار يلزمه اليمين، فهذا يلزمه اليمين.

أما الأولى فمعلومة بلغة العرب وعرف الشرع.

وأما الثانية فمعلومة بنص الشرع، وهذا فيما يتعلق بالخصومات لا فيما كان إنكارًا خارجًا عن ذلك، فإنه خارج عن محل النزاع.

وهكذا اليمين التي يسميها بعض أهل الفقه يمين كف، فإن الكلام فيها كالكلام في يمين العنت، والتقرير، التقرير، والدليل الدليل. وهي ملاقية ليمين العنت في بعض مواردها، لأن المدعي إذا أنشأ الدعوى على غيره فقال ذلك الغير، هو يعلم أنه قد تقدم بيني وبينه ما يدفع هذه الدعوى، ويوجب كفها عني، وإنما هو يريد الإتعاب لي وإدخالي في خصومة قد اندفعت، وفي شجار قد انقطع وارتفع، فلا شك أن هذا المدعي لهذه الدعوى قد صدق عليه مفهوم المدعي كما أن خصمه الذي أحدث تلك الدعوى عليه قد صدق عليه مفهوم المنكر (١).


(١) اتفق الفقهاء على أن اليمين وسيلة الإثبات أمام القضاء، وأنها مشروعة لتأكيد جانب الصدق على جانب الكذب في إثبات الحقوق أو نفيها وهي تلعب دورًا عظيمًا في المحاكم عند العجز عن تقديم الأدلة والبراهين.
يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
الكتاب:
قال تعالى: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} [يونس: ٥٣].
وقال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: ٧٧].
* وغيرها كثير من الآيات الكريمة في مشروعية اليمين.
السنة: تقدم من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قضى باليمين على المدعى عليه ".
* وهو حديث صريح في مشروعية اليمين على المدعى عليه في القضاء.
الإجماع: كان الصحابة رضوان الله عليهم يحلفون في الدعاوى، ويطلبون اليمين في القضاء لفصل المنازعات، ولم يخالف مسلم في ذلك إجماعًا. وسارت الأمة على ذلك من سلفها إلى خلفها من عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يومنا هذا.
المعقول: إن الأمور المادية عامة ووسائل الإثبات الظاهرة خاصة كالشهادة والإقرار والكتابة كثيرًا ما تقف عند حد معين، وتعجز عن الوصول إلى كنه الحقيقة في بعض الأشياء، فلا يجد الإنسان مفرًا من اللجوء إلى الأمور المعنوية التي تعتمد على الضمير والعقيدة والأخلاق، ليستجلي غوامض الأشياء، ويستجدي عندها الطمأنينة واليقين، واليمين أحد هذه الوسائل المعنوية، فإن كثيرًا من العلاقات تجري بين أصحابها من غير حضور الشهود أو تهيئة البينات، وقد يعجز المدعي عن إثبات حقه بالأدلة والبراهين، ويحال بينه وبين ما يدعيه وتنقطع به الوسائل فيقف كليل الخاطر عن دعواه وطلب حقه، ويستسلم إلى ذمة المدعى عليه، ويركن إلى ضميره، عسى أن تختلج أحاسيسه بالواقع، وتنطق بصيحة الحق فيعترف به أو يحلف على بطلان دعوى المدعي. فكانت اليمين مما يتطلبها العقل. ويراها ضرورية في الإثبات لإنهاء الخلاف عند العجز عما سواها.
انظر: " الزواجر " لابن حجر الهيثمي (٢/ ١٥٢)، " تبيين الحقائق " للزيلعي (٣/ ١٠٧).
أنواع اليمين: تنقسم اليمين باعتبار الحالف إلى:
(أ): يمين المدعى عليه.
(ب): يمين المدعي.
(ج): يمين الشاهد.
(أ): يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الدافعة أو اليمين الأصلية أو اليمين الرافعة ويطلق عليها الحنفية " الواجبة " وهي التي يوجهها القاضي بناءً على طلب المدعي إلى المدعى عليه لتأكيد جوابه عن الدعوى وتقوية جانبه في موضوع النزاع وهذه اليمين متفق عليها في جميع المذاهب ومجمع على العمل بها.
وقد سميت بالواجبة: لوجوبها على المدعى عليه إذا طلبها المدعي بنص الحديث الشريف " ولك يمينه ".
وسميت بالدافعة لأنها تدفع ادعاء المدعي.
وسميت بالرافعة: لأنها ترفع النزاع وتسقط الدعوى.
وسميت بالأصلية: لأنها هي المقصودة عند الإطلاق وهي التي وردت بها معظم النصوص. وينصرف إليها الذهن لأول وهلة عند عدم التقليد وهي التي يدور عليها الحديث كوسيلة في الإثبات تعريفًا وتفريعًا وأهمية.
(ب): يمين المدعي وهي ثلاثة أقسام:
١ - /اليمين الجالية: وهي التي يؤديها المدعي في إثبات حقه لسبب يستدعي القيام بها، وهي حجة في الإثبات مختلف فيها.
وهذا السبب المستلزم لها إما أن يكون شهادة شاهد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي وهي اليمين المردودة المنقلبة، وإما أن يكون لوثًا وهي أيمان القسامة في القتل والجراح، وإما أن يكون قذفًا من الرجل لزوجته وهي أيمان لعان، وإما أن يكون أمانة فكل أمين ادعى الرد على من ائتمنه فيصدق بيمينه إلا المرتهن والمستأجر والمستعير فلا يصدقون إلا بالبينة لأن حيازتهم كانت لحظ أنفسهم.
انظر: " التاج المذهب " (٤/ ٣١)، " جامع الفقه " (٧/ ٢٦٦).
٢ - /يمين التهمة: وهي التي تتوجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، وقال بها المالكية والزيدية.
٣ - /يمين الاستظهار: وتسمى يمين الاستيثاق أيضًا، ويسميها المالكية يمين القضاء ويمين الاستبراء، وهي اليمين التي يؤديها المدعي بناء على طلب القاضي لدفع الشبهة والريبة والشك والاحتمال في الدعوى بعد تقديم الأدلة فيها. فاليمين تكمل الأدلة ويتثبت بها القاضي من صحة الأدلة.
مشروعية هذه اليمين: كان شريح يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف عون بن عبد الله رجلاً مع بينته فأبى أن يحلف فقال له: ما كنت لأقضي لك بما لا تحلف عليه، وقد ذكر ابن المنذر أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي كانا يستحلفان المدعي مع بينته ونقل ابن القيم فقال: قال أبو عبيد: إننا نرى شريحًا أوجب اليمين على الطالب مع بينته حين رأى الناس مدخولين في معاملتهم واحتاط لذلك.
وقيل لشريح: ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟ قال رأيت الناس أحدثوا فأحدثت ... ".
انظر: " الطرق الحكمية " (ص١٤٥)، " المبسوط " (١٦/ ١١٨)، " تبصرة الحكام " (١/ ٢٧٦).