قال ابن قدامة في " المغني " (١٤/ ٩٣ - ٩٤): وجملته أن من ادعى حقًا على غائب في بلد آخر، وطلب من الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط. وبهذا قال شبرمة ومالك، والأوزاعي، والليث، وسوار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر. وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب. وعن أحمد مثله. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي ذلك عن القاسم، والشعبي، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا كان له خصم حاضر، من وكيل أو شفيع، جاز الحكم عليه. واحتجوا بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعلي: " إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تدري بما تقضي " تقدم تخريجه. ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة، ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه. قال الماوردي: وأما سماع الدعوى على الغائب، فإن لم تقترن بها بينة لم تسمع؛ لأن سماعها غير مفيد، وإن اقترن بها بينة سمعت وسمعت البينة عليها وهذا متفق عليه في جواز الدعوة والبينة على الغائب. واختلف في معنى سماع البينة على الغائب. فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: سماع الحكم. وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: سماع تحمل، كالشهادة على الشهادة، فأما القضاء على الغائب بعد سماع البينة عليه فلا تخلو غيبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون غائبًا عن الحكم حاضرًا في مجلسه. فلا يجوز الحكم عليه إلا بعد حضوره وإمضاء الحكم عليه بعد إعلامه. وهذا متفق عليه وإن اختلف في معناه: فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: ارتفاع الضرورة. وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: ما عساه يدفع به الحجة. الحالة الثانية: أن يكون غائبًا في بلد الحكم، فقد اختلف الفقهاء في جواز القضاء عليه مع غيبته على ثلاثة مذاهب: ١ - مذهب الشافعي: يجوز القضاء عليه مع غيبته في عموم الأحكام، فيما ينقل وما لا ينقل، سواء تعلقت بحاضر أو لم تتعلق بحاضر، كما يجوز أن يحكم على الميت، وعلى من لا يجيب عن نفسه من الصبي والمجنون. ومن شرط التنفيذ عليه بعد الحكم أن يستحلف المحكوم له على بقاء حقه بعد ثبوته. ٢ - مذهب أبي حنيفة: أن القضاء على الغائب لا يجوز فيما ينقل وما لا ينقل إلا أن يتعلق بحاضر، فيجوز أن يحكم عليه تبعًا للحاضر لقوله: غصبني هذا وفلان الغائب عبدًا، أو ابتاع مني دارًا. ٣ - مذهب مالك: يجوز القضاء على الغائب فيما ينقل، ولا يجوز القضاء عليه فيما لا ينقل من العقار، فهذه مذاهب الفقهاء في القضاء على الغائب. الحالة الثالثة: أن يكون غائبًا عن مجلس الحكم وحاضرًا في بلده فقد اختلف أصحابنا: هل يجري مجرى الغائب عن البلد في جواز القضاء عليه، أو يكون كالحاضر في مجلس الحكم في المنع من القضاء عليه؟ وعلى وجهين: أ - وهو الظاهر من مذهب الشافعي: لا يجوز القضاء إلا بعد حضوره، للقدرة عليه في الحال، كالحاضر في المجلس. ب - وهو مذهب ابن شبرمة، وأحمد، وإسحاق: يجوز القضاء عليه كالغائب عن البلد. قال ابن شبرمة: احكم عليه ولو كان وراء جدر. فهذه أحوال الغائب واختلاف الفقهاء في القضاء عليه. انظر مزيد تفصيل في " أدب القاضي للماوردي (٢/ ٢٩٣ - ٢٩٤)، " الحاوي " (٢٠/ ٣٦٩ - ٣٨٥) " روضة القضاة " (١/ ١٩٤).