للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الوجه الثالث: ذكرتم في أول كتابكم هذا: إن هذه القرينة التي قلتم عقبها أن القرائن القوية معمول بها هي أني لما أرسلت إليكم بالمظلومين أرسلتم للمجني عليه، فلما أرسلتم له عزموا بلادهم فقلتم: لو كانوا محقين لما عزموا، وجعلتم ذلك دليلاً على صحة الدعوى لكونه قرينة قوية.

فأقول: غريمهم الذي تظلموا منه، وشكوا من فعله هو العريف، لا المجني عليه، فكان عليكم أن ترسلوا له لكون الدعوى منهم عليه، أو تحولوا بينه وبينهم، فهو لم يقدم ويحجم، ولا صال ولا جال إلا لكونكم فوضتموه في تلك البلاد، وجعلتم إليه الإصدار والإيراد، فما بالكم عدلتم عن هذا! وأرسلتم لغير من يدعون عليه! وأردتم أن تفتحوا عليهم بابًا مرتجًا، وتحيوا لهم خصومة، وتستخرجوا لهم غريمًا يدعي عليهم! وأين هذا من الإنصاف! ومن فعل المتشرعين! فهذا المظلوم إن هرب من هذا لم يكن ملومًا عند الله، ولا عند الناس، لأنه قد تيقن عدم إنصافه، وعرف ما يراد منه، وأيس من أن يعدل به، ويذاق حلاوة الحق، لأنه فر إلى الشريعة المطهرة، وإلى من إليه ولاية أمره، يشكو هو وأهله بالعريف الظالم، ويذكرون أن رسل هذا الفاجر في بيتهم يهتكون حرمتهم، ويستحلون مالهم، فقيل لهم: سنبعث لكم غريمًا من العدم، ومدعيًا من لا شيء يدعي عليكم، وإن كره أنكم فعلتم وفعلتم فيكون ذلك مسوغًا لما فعله العريف بكم من التنكيل بمجرد الدعوى، ونقيم الحجة له عليكم وعلى الشريعة التي فررتم إليها، بمجرد وجود مدع يكرهه على الدعوى، فهل يلامون إن هربوا من مثل هذا؟ وهل الفرار إلا عين الصواب؟ لأن حالهم قد صار كما قال القائل (١):


(١) يقال قائدًا من قواد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف هرب إلى عمرو بن الليث، وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه، فدخل عليه أبو نجدة لخيم بن ربيعة بن عوف من بني عجل، وكان شاعرًا فأنشده أبياتًا منها هذا البيت، فسر أحمد، وسرى عنه، وأجزل صلة أبي نجدة.
" الأغاني " (٢٠/ ١٣٢).