للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في غاية الاستبعاد، فنهاية [٨] الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما تقبل القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام.

والبينة لم تكن بذاتها موجبة للحد، وإنما ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يبلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافة لا يقدح في كونها دليلاً كالبينة والإقرار انتهى كلامه (١).

ولا يخفى عليك أنه إنما قال: يعمل بالقرائن في ثبوت الحد في مثل هذا الأمر الذي ورد فيه بخصوصه هذا الدليل، ولم يجعل هذه القرائن وهذا الدليل مسوغًا لأخذ مال الرجل المتهم ولا مجوزًا له.

الوجه الثالث: في بيان دفع كلام ابن القيم هذا بما يظهر خلاف لراقم الأحرف. وإذا اندفع اندفع كلام غيره بالأولى، فلم يقرر دلالة هذا الدليل على العمل بالقرائن أحد من العلماء كتقريره، ولا طول هذا البحث من متقدميهم ولا متأخريهم كتطويله، فإنه كرره في مواضع من مؤلفاته، وقرره وطوله بما حاصله ما نقلناه عنه سابقًا، فنقول: لا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة والقيء، مما لا يبقى فيه لا شك ولا ريبة أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما بتلك المنزلة، أو يلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها وينكر ما تدعيه، وهي تقر بأنه قد أغاثها رجل غير الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأن ذلك الرجل الذي أغاثها قد فارقها كما فارقها الرجل الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأنه موجود في الخارج، كما أن الرجل الذي باشرها موجود في الخارج، فكيف يدعي عاقل على العقل، أو على الشرع أنه يقتضي أن هذا


(١) أي كلام ابن القيم في " أعلام الموقعين " (٣/ ٩ - ١٠).