للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العلامة علي بن عبد الله الجلال وجوهًا عديدة من جملتها عمله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالقرائن (١).


(١) القرائن جمع قرينة: وهي الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه بل الاستعمال فيه بمجرد المقارنة والمصاحبة أو هي أمر يشير إلى المقصود.
وقيل: القرينة مأخوذة من المقارنة فهي فعيلة بمعنى المفاعلة، والقرينة مؤنث القرين، ويقال قرنت الشيء بالشيء وصلته به، واقترن الشيء بغير صاحبه. وقارنته قرانًا صاحبته، والقرين الصاحب وهي قسمان حالية ومقالية.
فالحالية: مثل أن تقول للمسافر " في كنف الله " فإن في العبارة حذفًا ويدل على تجهزه المصاحب للسفر وهو القرينة الحالية.
والمقالية: أن تقول " رأيت أسدًا يخطب " فإن المراد بالأسد رجل شجاع، ويدل على ذلك لفظ " يخطب " فهو قرينة مقاليه، وقد يقال لفظية ومعنوية.
انظر " الصحاح " (٦/ ٢١٨٢)، " أساس البلاغة " (٢/ ٢٤٨).
القرائن اصطلاحًا: عرفها الفقهاء بمعنى الأمارة، وهي ما يلزم من العلم به الظن بوجود المدلول كالغيم بالنسبة إلى المطر فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر.
" التعريفات " للجرجاني (ص١١٧).
وقال مصطفى الزرقا في " المدخل الفقهي العام " (٢/ ٩١٤): القرينة: كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا فتدل عليه وهي مأخوذة من المقارنة بمعنى المرافقة والمصاحبة.
من شروط القرينة:
١ - أن يوجد أمر ظاهر ومعروف وثابت ليكون أساسًا لاعتماد الاستدلال منه لوجود صفات وعلامات فيه، ولتوفر الأمارات عليه، فالوقائع المادية والتصرفات البشرية تتألف من أمور ظاهرة ثابتة، وتنطوي على أمور باطنة يستدل عليها بالأمارات المصاحبة لها.
٢ - أن توجد الصلة بين الأمر الظاهر الثابت والقرينة التي أخذت منه في عملية الاستنباط والاستنتاج، وذلك باستخراج المعاني من النصوص والوقائع بالتأمل والتفكير الناشئ عن فرط الذهن وقوة القريحة وهذه الصلة بين القرينة وبين الأمر المصاحب لها تختلف من حالة إلى أخرى، ولكن يشترط أن تكون العلاقة قوية بينهما. وتقوم على أساس سليم ومنطق قويم، ولا تعتمد على مجرد الوهم والخيال أو الصلة الوهمية الضعيفة، لأن المهم أن يكون عند الإنسان علمًا في الدعوى يكاد يماثل العلم الحاصل من الشهود وغيرهم، وهذا يحصل بالتأكيد من قوة المصاحبة والمقارنة.
وبناء على قوة هذه الرابطة وضعفها تنقسم القرائن إلى قسمين: قرائن قوية وقرائن ضعيفة.
انظر: " المدخل الفقهي العام " (٢/ ٩١٢)، " الأصول القضائية "، قراعة (ص٢٧٥).
فالقرائن حسب قوتها وضعفها تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
١ - أن تكون دليلاً قويًا مستقلاً لا يحتاج إلى دليل آخر، فهي بينة نهائية. ويطلق عليها القرينة القاطعة.
٢ - أن تكون دليلاً مرجحًا لما معها، ومؤكدة ومقوية له، كالوصف الصحيح في تنازع المؤجر والمستأجر في كنز وسط الدار، فكلاهما صاحب يد.
٣ - أن تكون دليلاً مرجوحًا فلا تقوى على الاستدلال بها، وهي مجرد احتمال وشك فلا يعول عليها في الإثبات، وتستبعد في مجال القضاء.
وتنقسم القرائن بحسب مصدر القرينة إلى ثلاثة أنواع:
أ - قرائن نصية ورد عليها نص من الكتاب أو السنة وجعلها الشارع أمارة على شيء معين مثل الدم قرينة على القتل في قصة يوسف: {وجاءوا على قميصه بدم كذب} [يوسف: ١٨].
ب - قرائن فقهية: فقد استخرج الفقهاء بعض القرائن، وجعلوها أدلة على أمور أخرى، وكذلك استنبط القضاة كثيرًا من هذه القرائن واستدلوا بها في الدعاوى وسجلوها في كتب الفقه والمؤلفات الخاصة. ويمكن ضمها إلى القرائن الشرعية السابقة.
ج - قرائن قضائية: وهي التي يستنبطها القضاة بحكم ممارسة القضاء ومعرفة الأحكام الشرعية التي تكون لديهم ملكة يستطيعون لها الاستدلال وإقامة القرائن في القضايا ومواضع الخلاف، ويلاحظون العلامات ويستخرجون الأمارات من ظروف كل دعوى عن طريق الفراسة والفطنة والذكاء ويصلون إلى معرفة الحق، وتمييز الطيب من الخبيث. ولكن يجب إحاطتها بالحيطة والحذر وعدم التعويل عليها إلا ضمن القواعد والضوابط المقبولة.
انظر: " تبصرة الحكام " (١/ ٢٠٢)، " الطرق الحكمية " (ص٩٧، ٢١٢): " أعلام الموقعين " (١/ ٨٥).
وقد دل على اعتبار القرائن الكتاب والسنة أقوال السلف الصالح من فقهاء وقضاة.
١ - أدلة القرآن الكريم على اعتبار القرائن:
قال تعالى: {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: ١٨].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (٩/ ١٤٩) استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات والأخذ في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه حتى روي أنه قال لهم: متى كان هذا الذئب حكيمًا يأكل يوسف ولا يخرق القميص.
وانظر: " الطرق الحكمية " لابن القيم (ص٦).
٢ - ومن السنة النبوية أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بقول القافة، وجعل القيافة دليلاً من أدلة ثبوت النسب وليس هنا إلا مجرد الأمارات والعلامات، وقد أخذ الخلفاء الراشدون بهذا النهج، أي اعتبار القيافة من أدلة ثبوت النسب، وأخذ بها مالك وأحمد والشافعي وغيرهم والأخذ بالقيافة دليل على اعتبار القرائن.
انظر: " الطرق الحكمية " (ص١٠)، " أقضية الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " للشيخ محمد فرج المالكي (ص١١٢) " تبصرة الحكام " (٢/ ١٠٤).
٣ - من أقضية الصحابة رضي الله عنهم:
حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دون نكير من أحد بإقامة حد الزنا على امرأة ظهر حملها ولا زوج لها اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وهذا ما ذهب إليه مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
كما حكم عمرو بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بوجوب الحد برائحة الخمر من فم الرجل أو قيئه خمرًا اعتمادًا على القرينة الظاهرة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
" الطرق الحكمية " لابن القيم (ص٦)، " تبصرة الحكام " (٢/ ٨٨ - ٩١).
* وقد أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقًا من طرق الحكم، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها كما نجد ذلك في مذهب مالك، فمن ذلك قول الفقيه المالكي ابن فرحون في " تبصرته " (٢/ ٨٨ - ٩١) أن من طرق القضاء في المذهب المالكي الأخذ بالقرائن، وهذا من مذهب المالكية في التصريح بالأخذ بالقرائن مذهب الحنابلة. وكذلك ما نقله الفقيه ابن القيم الحنبلي وبينه في كتابه " الطرق الحكمية " (ص٢١).
إلا أن فريقًا من الفقهاء من المذاهب الأخرى لا يصرحون بالأخذ بالقرائن ولكن نجدهم في الواقع يرتبون أحكامًا على أساس اعتبارهم للقرائن. من ذلك قولهم بانعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا.
وانظر: " تبصرة الحكام " (٢/ ١١٨).
وقد اعترض الحافظ في " الفتح " (٣/ ١٦٠) على اعتبار القرينة بالحديث الشريف البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فليس في الحديث غير البينة فهي التي يعول عليها ويؤخذ بها في القضاء. والجواب على ذلك أن القرينة الظاهرة تدخل في مفهوم البينة التي يبنى عليها الحكم، لأن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره. ولا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق فهو بينة.
وعلى هذا فالبينة قد تكون شهادة مقبولة أو نكولاً عن يمين وقد تكون قرينة أو شاهد الحال الذي هو من أنواع القرينة، فقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " أي على المدعي أن يقدم ما يبين ويكشف صحة دعواه ويظهرها، فإذا ظهر صدقه بقرينة من الطرق حكم له.
وعلى هذا فإن من قصر مفهوم البينة على الشهود لم يعرف ما ينطوي عليه اسم البينة من معنى، ومما يؤيد ذلك أن البينة لم تأت قط في القرآن الكريم مرادًا بها الشهود، وإنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان، وعلى هذا فإن الشهود من البينة والقرينة من البينة، وقد تكون في بعض المواضع أقوى دلالة على صدق المدعي في دعواه من دلالة الشاهدين عن ذلك.
" الطرق الحكمية " (ص٢١)، " تبصرة الحكام " (٢/ ١١٨).