للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واضح، وأما ما يرقمونه على طريقة حكاية الإقرار، أو للفظ شهادة شهدوا لديه أو نحو ذلك من دون جزم منه بذلك فإن هذا ليس من باب الحكم، بل من باب الرواية، فهو قد روى مثلاً صدور الإقرار لديه، أو قيام البينة عنده؛ لكون خطه معروفًا لا يشك فيه، ولكن إذا تبين خلل ذلك الإقرار بوجه من الوجوه المعتبرة فيه، أو خلل الشهادة بأمر يوجب القدح فيها كان العمل بذلك واجبًا.

وحاصل الأمر أنه لا شك أن العمل بالخط على الوجه المعتبر شريعة قائمة (١)، وسنة


(١) اتفق الفقهاء والمحدثون على جواز الاعتماد على الخط والكتابة في نقل الحديث والروايات التي حفظها الراوي عنده للتحديث منها والنقل عنها، وفي تدوين الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية، وتدوين الحديث، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع الإسلام بضياع السنة الصحيحة والأحكام الفقهية التي نقلت لنا خلفًا عن سلف بطريق الكتابة، ولو لم تكن الكتابة مقبولة عند الفقهاء، وحجة في النقل لما عولوا عليها في تدوين الكتب والمؤلفات.
الكتابة هي الوسيلة التي حفظ الله بها الشريعة، وقد أمر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة الوحي واتخذ كتابًا للوحي بلغ عددهم أربعين كاتبًا
* ثم اختلف الفقهاء في مشروعية الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات بشكل عام وكامل.
(أ): القول الأول: أن الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات ليست مشروعة ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء ورواية عن أحمد.
" تبصرة الحكام " (١/ ٣٥٦).
ومن أدلتهم على ذلك:
١ - ): أن الخطوط تتشابه ويصعب تمييزها، وقد يخيل للشخص أن الخطين متشابهان وأن صاحبهما واحد.
فالخط أو الكتابة يحتمل التزوير والافتعال فلا تكون حجة ودليلاً في الإثبات؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ويعترض على ذلك بأن التشابه نادر فلا يبنى عليه الحكم، وإن تشابه الخط كتشابه الأصوات والصور، وإن كشف التزوير ممكن لأهل الخبرة والفطنة والاختصاص، الذين يعرفون الخطوط ويميزون الأصلي من المقلد وخط كل كاتب يتميز عن خط غيره، كتمييز صورته وصوته.
" الطرق الحكمية " (ص٢٠٧).
٢ - ): الكتابة قد تكون للتجربة واللعب والتسلية فلا تعتبر حجة ودليلاً للآخر لعدم القصد وتوجيه الإرادة نحوها والقاعدة الفقهية تقول العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
* وهذا دليل مستغرب ومستبعد أن يجرب الإنسان خطه. أو يمارس اللعب والتسلية بكتابة الحقوق وإثبات الديون للآخرين، وهو احتمال هزيل. والقاعدة التي ذكرت حجة عليهم لا لهم.
٣ - ): تنحصر في الإقرار والبينة والنكول، وأن الكتابة ليست من أدلة الإثبات. والكتابة زيادة على النص والزيادة على النص نسخ عند الحنفية، أو هو اعتبار لما ليس من الدين فهو حدث وبدعة، ويعترض على ذلك بأن الكتابة وسيلة لإبلاغ الشريعة إلى الملوك والرؤساء، وقد أمر القرآن بالكتابة والتوثيق بها. وعمل بها الرسول الأعظم وأمر صحابته بتعلم الكتابة من أسرى بدر واتخذ الكتاب لكتابة الوحي وكتابة الرسائل والأحكام إلى عماله وأمرائه وولاته.
وقبلها المسلمون واستعملوها في حياتهم دون إنكار، سواء ذلك في رواية الحديث وتلقي العلم وكتابة الأحكام الشرعية وفي المعاملات والقضاء وجميع شؤون الدولة.
القول الثاني: أن الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات مشروعة ذهب إلى ذلك المالكية وأحمد في رواية بعض السلف.
" تبصرة الحكام " (١/ ٣٥٦)، " الطرق الحكمية " (ص٢٠٧).
ومن أدلتهم على ذلك:
من الكتاب: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} وقال سبحانه: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب} [البقرة: ٢٨٢].
* وسواء كان الأمر للفرض أو الندب، فالآية تقرر اعتبار الكتابة وثيقة في المعاملات، وفائدة ذلك الاعتماد على تلك الوثيقة عند الإنكار والجحود. والاحتجاج بها أمام القاضي.
من السنة: تقدم من حديث أبي هريرة وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اكتبوا لأبي شاه ".
وانظر: " زاد المعاد " (٣/ ٧)، " الأموال لأبي عبيد " (ص٣٨١)، " فتح الباري " (١٣/ ١٤١).
من المعقول: أن الكتابة كالخطاب والكتابة أشد دلالة على جزم الإرادة؛ لأن الإنسان قد يتلفظ سهوًا، وينطق خطأ، وقد يسبقه لسانه وقد يتكلم مزحًا وهزلاً، أما الكتابة، فإن العقل والفكر متجهان نحوها اتجاهًا جازمًا ويتأمل بما يكتبه، ويفكر في دلالته ومعناه ومقصوده، ولذلك قال الحنفية والمالكية: إن الكتابة المستبينة المعنوية صريحة الدلالة، خلافًا للشافعية، فقالوا إن الكتابة كناية، وقد قال الحنابلة: الكتابة صريحة إلا في النكاح والطلاق.
" المجموع " (٩/ ١٧٧). " الطرق الحكمية " (ص٢٠٧).
الراجح والله أعلم:
القول بمشروعية الكتابة في إثبات الحقوق لقوة الأدلة، ولحاجة الناس إلى استعمالها واللجوء إليها؛ ولأن القول بعدم حجية الكتابة في الإثبات يؤدي إلى الحرج والمشقة في المعاملات بين الناس فتتعطل مصالحهم وتضيع حقوقهم وأموالهم لعدم تيسير الشهود دائمًا
وقال ابن تيمية: والعمل بالخط مذهب قوي بل هو قول جمهور السلف.
" مختصر الفتاوى المصرية " لابن تيمية (ص٦٠١، ٦٠٨)، " الطرق الحكمية " (ص١٠).
قال ابن حجر في " الفتح " (١٣/ ١٤٤١) تعليقًا على قول البخاري في باب رقم (١٥) الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك، وما يضيق عليه وكتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى القاضي.
يريد أن يقول بذلك لا يكون على التعميم إثباتًا ونفيًا، بل لا يمنع ذلك مطلقًا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقًا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزًا بشروط.
وانظر: " تبصرة الحكام " (٢/ ١١).