للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الوصية لغير الوارث، كما تناول الوصية للوارث، فخرجت عنه الوصية للوارث بالحديث الآخر، وهو أرجح منه سندا ومتنا، على أنه يبعد أن يقال: أن الوصية للوارث ليست مما يوجب الزيادة في الحسنات، لأنها ممنوعة بنص الشارع، لما فيها من المجاوزة لحدود الله، والتعدي لفرائضه، والمخالفة لما شرعه الله، فتعليله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم " فقوله: " زيادة في حسناتكم " تفيد اختصاص هذه الصدقة لما فيه زيادة في الحسنات، ولا زيادة قد نفاها الشارع، وقال: " لا وصية لوارث " بهذه الصيغة الشاملة المحيطة، فهذا الحديث يرد دعوى من يدعي أن فيها زيادة في الحسنات، ولو فرضنا عدم دليل يدل على أنه لا زيادة فيها في الحسنات لكان دعوى أن فيها زيادة في الحسنات مصادرة على المطلوب، وهي باطلة.

ولا شك أن البدر - رحمه الله - لو تنبه لهذا لقابله بالقبول، فكيف يصح التعويل على هذا الحديث! وقد عارضه ما هو أحق منه مطلقا! على فرض دلالته على مخل النزاع، وتناوله له؛ فكيف إذا كان قد علل بعلة تفيد أنه لا يتناوله، ومن جملة ما استدل به - رحمه الله - تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص لما قال أتصدق بكذا من مالي (١).


(١) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (١٢٩٥) ومسلم رقم (٥/ ١٦٢٨) وأبو داود رقم (٢٨٦٤) والترمذي رقم (٢١١٦) والنسائي (٦/ ٢٤١ - ٢٤٢) وابن ماجه رقم (٢٧٠٨) وأحمد (١/ ١٧٩) والطيالسي (١/ ٢٨٢ رقم ١٤٣٣ - منحة المعبود) ومالك (٢/ ٧٦٣ رقم ٤) والدارمي (٢/ ٤٠٧).
قال القرطبي في "المفهم" (٤/ ٥٤٠ - ٥٤١) "اعلم أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: ١٨٠] ".
وهي بمجموع قرائنها نص في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم إنها بعد ذلك نسخت، واختلف في ناسخها.
فقيل: آية المواريث. وفيه إشكال، إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث وبالميراث إن لم يوص. أو ما بقي بعد الوصية. لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث " فإذًا: آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمة أخرى، وهي السنة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد.
ويجاب عنه: إن ذلك قد كان معمولاً به في الصحابة، كما قد حكاه الأصوليون في كتبهم. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز، فلم يكن ذلك الخبر آحادًا بل كان متواترًا، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة وأخبرهم بنسخ ذلك بسنته وأهل عرفة عدد كثير، وجم غفير، لا يحيط بهم بلد، ولا يحصرهم عدد، فقد كان متواتر فنسخ المقطوع بالمقطوع. ونحن وإن كان هذا الخبر قد بلغنا آحادًا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين: أنه لا تجوز الوصية لوارث، فقد ظهر: أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسنة، وأنها مستند المجمعين غير أنه قد ذهب طائفة وهم: الحسن، وقتادة، والضحاك وطاووس: إلى أن وجوب الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة، بل في حق الوارثين خاصة، واختاره الطبري.
قلت: أي- القرطبي- وعلى هذا: فلا يكون هذا نسخًا عند هؤلاء، بل: تخصيصًا لعموم قوله تعالى: {والأقربين} بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا وصية لوارث "، وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله: " لا وصية لوارث " متواترًا، لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول.