أقول: سلمنا أن الآية واردة على ذلك السبب، فالذلة لا تختص بفرد معين دون غيره إلا بدليل، وقد تقرر في الأصول عدم القصر على السبب، وتقرر أن قصر الذلة على مجرد إعطاء الجزية، والفقر، والمسكنة تحكم محض، فما هذا الكلام الذي لا نفاق له في سوق الجدال والخصام، ثم رتب على هذا الكلام أنه إخبار به ولا تكليف به، وكأنه ظن أن التكليف مقصور على الواجب [٤] وهو فاسد يدفعه إطباق أئمة الأصول على شموله لغيره من الأحكام.
ثم قال: فكيف يقال أنه يجب إجبار اليهود، وأنت تعلم أن السؤال الذي أجبنا عليه بالرسالة إنما هو في مطلق ما يدل على الإجبار، فما دل على الوجوب، أو الندب، أو أعم منهما - أعني الجواز - فهو صالح لجعله جوابًا؛ لأن السائل لم يسأل عن خصوص ما يدل على الوجوب، ولا اقتصرت في الجواب على هذا الصنف، بل جمعت بين جميع أنواع الجواز، ولم أقصر في بيان هذا الأمر بعد جعلي له عنوانًا لتلك الرسالة، وتصريحي به قبل الشروع فيها، وقد وهم علي المعترض وهمًا فاحشًا، فواخذني في كل دليل لا يدل على الوجوب، وما أدري ما الحامل له على هذه التعسفات، فإن كان مجرد المعارضة من غير مبالاة بما وقع من الخبط والخلط، فما هذا دأب أهل العلم والإنصاف.
إنك إن حملتني ما لا أطيق ... ساءك ما سرك مني من خلق
وغاية الأمر أن الرجل يريد أن يدل دليل على هذه الخصلة بخصوصها، ولو كان ذلك شرطًا في التكليف لاستراح الناس عن أكثر التكاليف، ومن بلغ به الأمر إلى هذا الحد لم يستحق المراجعة.
قال: وإن قال: الآية خبر في معنى الأمر إلى قوله: من لغة أو شرع.
أقول: إبطاله لدلالة هذه الآية على المطلوب بقوله: لأنه لم يأمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الغرائب، فإنه لا شك بعد تسليم دلالة الآية على الإذن بضرب الذلة العامة عليهم، أو الإذن بجنسها، أو الأمر بأحد الأمرين أنها متناولة للفرد الكامل من أفراد الذلة تناولًا أوليًّا، إلا أن ينهي الشارع عنه، وتوقف ذلك على أن النبي - صلى الله