إليها، واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها، قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله"، قال: "وقال النبي أشعيا في حقيقة التلذذ: لا عين [تقدر تراه](١) إلا علم الله تعالى". انتهى كلام موسى ابن ميمون المذكور.
ثم قال هذا اللعين في كتابه المسمى بالمشنا بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه هاهنا ما لفظه: "اعلم أنه كما لا يدري الأعمى الألوان، ولا يدري الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع؟ كذلك لا تدري الأجسام اللذات النفسانية. وكما لا يعلم الحوت اصطقص النار لكونه في حده، كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا توجد لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادئ الرأي إلا بعد تحذق كثير.
وإنما وجب ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته، فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبين هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه، ولا يصح لنا في الشرع، ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل هي لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري -عز وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها؛ لأنه ليس لهم حواس مثلنا يدركون بها ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت، لا يدرك اللذات الجسمانية، ولا يريدها، كما لا يريد الملك عظيم الملك، أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق، وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك من حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا. كما نفضل نحن اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية.