وإذا ما بلغت أمر هاتين اللذتين نجد حساسة اللذة الواحدة، ورفعة الثانية، ولو في هذا العالم، وذلك أن نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب، ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست لذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس، يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يتجنب أعظم ما يكون من اللذات الجسمانية، خشية أن يناله في ذلك جزاء أو حشمة من الناس.
فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا، فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثل ما تعقل الأجرام العلوية، أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمته: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك، وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل، ولا شرب، ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ بما تعقل من الباري بما تستلذ سائر طبقات الملائكة بما عقلوا من وجوده -سبحانه-.
فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى. والحصول في هذا الحد.
هو بقاء النفس كما وصفنا إلى ما لا نهاية له، ببقاء الباري -جل اسمه-، وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف [تمثل](١) الدائم بما لا نهاية له بالشيء المنقطع، وهو قوله تعالى في نص التوراة:"لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العلم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وأن لا تحصل باقية، وهو القطع المذكور (١)
في التوراة كما بين". وقال: "انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل.