للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكل من أخلد إلى اللذات الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، وبقي مادة منقطعة فقط، وقد قال النبي أشعيا: "إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه".

وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك: "إن امتثلت هذه الشرائع، نعينك على امتثالها، والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كلها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة فوعد بزوال هذه كلها، وإنهم يصحون، ويتذهنون حتى يكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل. فليس غاية التوراة إلا أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها، وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدث عليهم تلك العوائق كلها، حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة. فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه الشرائع بمحبة وفرض نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضا استخفافا، نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء" انتهى.

فهذا خلاصة كلام ابن ميمون اليهودي زنديق اليهود في كتابه المذكور سابقا، وقد أوردنا لك كلامه هاهنا، لتعلم أنه لم يربطه شيء من كلام الله -سبحانه- يصلح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل، وكتب سائر الأنبياء منادية بخلاف ذلك، حسبما قدمنا لك. وها نحن نوضح لك فساد كلامه هذا فنقول:

أولاً: إن حصر هذه اللذات النفسانية التي ذكرها لا ينافي حصول اللذات الجسمانية التي وردت في كتب الله -عز وجل-.

وقوله: "وليست بلذة طعام أو شراب"، هذا مسلم، فإن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام ولا شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام وشراب ونحوهما في تلك الدار الآخرة؟

فإن كان بالشرع، فكتب الله -سبحانه- جميعها ناطقة بخلاف ذلك كما قدمنا ذلك