للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد ثبت في هذه الشريعة المطهرة من التعبدات ما لا يمكن أن تتعقل فيه الحكمة [١أ] (١) بوجه من الوجوه، ومن زعم أنه يتعقل ذلك ويعرف وجهه فقد ادعى ما ليس له، وأثبت لنفسه ما لا يقوم به، فإن هذه الصلوات الخمس التي هي رأس الأركان الإسلامية، وأساس الأمور الدينية لا يتمكن أحد أن يبين وجه الحكمة في أعداد الركعات وكونها في بعض الصلوات ركعتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا، وكون أركانها على تلك الصفة، وأذكارها على تلك الهيئة.

ومن زعم أنه يبلغ علمه إلى معرفة ذلك فقد أثبت لنفسه ما ليس لها، وتحمل ما لا يطيقه، وإذا كان هذا في الصلوات التي هي أعظم شعائر الدين وفرائض الإسلام. فما ظنك بغيرها من الفرائض! بل ما ظنك بغير الفرائض من الأمور التي جاء بها الشرع! وهكذا الكلام في سائر أركان الدين، فإنه لو زعم زاعم أنه يعرف وجه الحكمة في مناسك الحج، وكونها على تلك الأعداد بتلك الصفات، أو زعم أنه يعرف وجه


(١) قال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية " (١/ ١٤١): "وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة.
والقول بإثبات هذه الحكمة ليس قول المعتزلة من وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين، من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام، وغيرهم. فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية".
وقال القرطبي في "المفهم" (٦/ ٢١٦): أن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا راعاها ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقلي يتوجه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق من علمه ونافد حكمه، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار.
وقال الحافظ في "الفتح" (١٣/ ٤٥٠) في "شرح باب في المشيئة والإرادة": "وقالوا في قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:٢٦] أي يعطي من اقتضته الحكمة الملك، يريدون أن الحكمة تقتضي رعاية المصلحة، ويدعون وجوب ذلك على الله، تعالى الله عن قولهم، وظاهر الآية أن يعطي الملك من يشاء سواء كان متصفا بصفات من يصلح للملك أم لا؟ من غير رعاية استحقاق ولا وجوب ولا أصلح بل يؤتي الملك من يكفر به ويكفر نعمته حتى يهلكه، ككثير من الكفار، مثل نمرود والفراعنة، ويؤتيه إذا شاء من يؤمن به ويدعو إلى دينه ويرحم به الخلق مثل يوسف وداود وسليمان - وحكمته في كلا الأمرين علمه وأحكامه بإرادته وتخصيص مقدوراته.
وقال الحافظ في"الفتح" (٨/ ٦٠٠) في شرح كلام البخاري على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] وفيه: "وليس فيه حجة لأهل القدر" - قال الحافظ -: "أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد أن تكون معلومة -[المعتزلة القدرية يقولون بوجوب التعليل في الأحكام، أي معللة بالمصالح وأن هذه الأحكام صدرت عن مصلحة، والوجوب في ذلك كله عندهم بجعل الله له ولكن هذا الوجوب فرضوه على الله تعالى.
قال ابن تيمية في"مجموع فتاوى" (٨/ ٩٢ - ٩٣): وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه
ثم قال - رحمه الله - وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضًا فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فإن إرساله كان من أعظم النعم على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه للعباد ... ".]- فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه.