للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كان كذلك والسرور بملاقاته من الأغراض الدنيوية المحضة، فعرفت أن الأحزان والهموم المتوجه من بعض نوع الإنسان إلى بعض على الدنيا ولها وفيها. وقد كشف هذا المعنى حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي (١) حيث يقول:

كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين منها تخلى (٢)

ما أجود فكره، وأحكم شعره، وأدق نظره! وبهذا التحقيق عرفت ما انطوى عليه ذلك الحديث الشريف من الإشارة إلى شرف هذه الخصلة، وهي التحاب في الله، حتى رفع لأهلها في دار الخلد منابر من نور تكريما لهم وتعظيما لقيامهم بنوع من الطاعات، لا يقوم بها إلا من سبقت له [٤أ] العناية الربانية.

فإن قلت: صور لي صورة يصدق في مثلها الحديث فإنه لا بد من وجود من يتصف بهذه الصفة (٣)؛ لأن الحديث من باب الإخبار، وأخبار الصادق يستحيل تخلفها،


(١) في ديوانه (٣/ ١٣١) بشرح أبي البقاء العكبري.
(٢) هذا البيت من قصيدة يعزي فيها سيف الدولة بأخته الصغرى أنشدها في رمضان سنة ٣٤٤، وهي من الخفيف والقافية من المتواتر. ومطلعها:
إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... فكن الأفضل الأعز الأجلا
"الديوان" (٣/ ١٢٣).
أما معنى البيت الذي استشهد به الشوكاني فيقول شارح الديوان (٣/ ١٣١): يريد أن كل من أبكته الدنيا إنما يبكي عليها، ولا يخلي الإنسان يديه عنها إلا قسرا.
(٣) نفتح أمامك صفحات مطوية.
أخرج ابن أبي الدنيا في "الإخوان" رقم (١٦٢): حدثني رياح بن الجراح العيدي، قال: جاء فتح الموصلي إلى صديق له يقال له عيسى التمار. فلم يجده في المنزل، فقال للخادم: أخرجي إلي كيس أخي، فأخرجته له فأخذ درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الخادم بمجيء فتح وأخذه الدرهمين فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لو أن الدنيا جمعت حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها أمرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه لما كان مسرفا.
انظر: "طبقات الحنابلة" (١/ ١٠٦).
قال أبو سليمان الداراني: قد يعملون بطاعة الله عز وجل ويتعاونون على أمره ولا يكونوا إخوانا حتى يتزاوروا ويتباذلوا.
انظر كتاب: "الإخوان" (ص١٢٧).