للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته".

قلت: الفرح منه عز وجل بتوبة عبده، هو لعظيم لطفه به ومزيد رأفته عليه لسلامته - بتوبته- من العذاب الأليم، وهذا هو من رحمته عز وجل لعباده، ولهذا صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حاكيا عن الرب عز وجل أنه قال:" سبقت رحمتي غضبي" (١) ومعلوم أن نفع هذه التوبة هو للعبد، كما أن ضر تركها هو عليه، وليس للرب تعالى وتقدس في ذلك نفع، ولا عليه سبحانه في خلافه ضرر، فليس بين هذا الحديث وبين حديث الباب تعارض.

والمراد بالفرح المنسوب إلى الرب عز وجل هو: الرضا بما وقع من ذلك العبد! البالغ إلى أشد من الرضا الحاصل لواجد تلك الضالة عند وجودها (٢)


(١) أخرجه البخاري رقم (٧٥٥٣) ومسلم رقم (٢٧٥١).
(٢) نجد أن الشوكاني لم يلتزم بالمنهج الذي ذكره في "التحف في مذاهب السلف" وهي الرسالة رقم (٣) من "الفتح الرباني" (ص ٢٥٩ - ٢٦٠).
فقد قال: ونعرف أن مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل.
وقال الدكتور محمد حسين الغماري في " الشوكاني مفسراً" أن الشوكاني رجع عن بعض هذه التأويلات في رسالته التحف لأنها من آخر ما ألف ولم يؤيد ما ذهب إليه بأي دليل إلا حسن الظن به.
* ونقف معا على أسس سليمة وقواعد مستقيمة:
١ - أن أسماء الله وصفاته توقيفية، بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات ولا يثبتون شيئا بمقتضى عقولهم وتفكيرهم، ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته. لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم، فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه وإلا إثباته، كالعرض والجسم والجوهر، فهم يتوقفون فيه بناء على هذا الأصل العظيم.
٢ - أن ما وصفه الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حق على ظاهره، ليس فيه أحاج ولا ألغاز بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المتشابه الذي يفوض معناه، لأن اعتبار نصوص الصفات مما يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، والله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن كله، وحضنا على تعقله وتفهمه، وإذا كانت نصوص الصفات مما لا يفهم معناه، فيكون الله قد أمرنا بتدبر وتفهم ما لا يمكن تدبره وتفهمه وأمرنا باعتقاد ما لم يمكن تدبره وتفهمه وأمرنا باعتقاد ما لم يوضحه لنا تعالى الله عن ذلك.
إذا، فمعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا، لا يعلمها إلا الله تعالى، ولهذا يقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: ٥]. كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات، ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه فقد كذب عليهم، لأن كلامهم يخالف كلام هذا المفتري.
٣ - السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل، فلا يمثلونها بصفات المخلوقين لأن الله ليس كمثله شيء، ولا كفء له، ولا ند له، ولا سمي له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاء لمعرفة الموصوف والله تعالى لا يعلم كيفية ذاته إلا هو والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات:) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: ١١]، أي لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فيجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، لأنه لا أحد أعلم من الله بالله: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: ١٤٠]، فهو أعلم بنفسه وبغيره.
كما يجب الإيمان بما وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لا أحد بعد الله أعلم بالله من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله في حقه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: ٣ - ٤]. فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينزه ربه جل وعلا من أن تشبه صفته بصفة الخلق.
٤ - وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجه يليق بجلاله ولا يشبهونه بخلقه، فهم ينزهونه عن النقائص والعيوب تنزيها لا يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجة التنزيه، فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات.
٥ - طريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: ١١]. فأجمل في النفي وهو قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفصل في الإثبات وهو قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكل نفي في صفات الله فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفيا محضا، لأن النفي المحض ليس فيه مدح لأنه عدم محض والعدم ليس بشيء.
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال: قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: ٤٩] أي: لكمال عدله سبحانه.
وقوله: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) [البقرة: ٢٥٥] أي: لكمال قدرته وقوته.
وقوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة: ٢٥٥] أي: لكمال حياته وقيوميته.
"الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد" (ص١٤٩ - ١٥٢).
وانظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة" (ص ٤٠٣)، "مجموع الفتاوى" (٦/ ٥١٨).