للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مدح له، بل توحيده من أعظم المدح له سبحانه، وقد رغب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الاستكثار من هذه الأمور، وبين ما فيها من الأجر العظيم للعباد، فعرفت بهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" ما أحد أحب إليه المدح من الله "، فلا تعارض بينه وبين حديث الباب.

فإن قلت: قد ثبت في الصحيحين (١) وغيرهما (٢) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله بأرض فلاة".

وفي رواية لمسلم (٣):" لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت عنه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".

وفي الصحيحين (٤) وغيرهما (٥) من حديث الحارث بن سويد عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:" لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية (٦) مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام


(١) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (٦٣٠٩) ومسلم رقم (٢٧٤٧)
(٢) كأحمد (٣/ ٢١٣) وابن حبان في صحيحه رقم (٦١٧).
(٣) في صحيحه رقم (٧/ ٢٧٤٧)
(٤) أخرجه البخاري رقم (٦٣٠٨) ومسلم رقم (٢٧٤٤)
(٥) كأحمد (١/ ٣٨٣) وابن حبان في صحيحه رقم (٦١٨)
(٦) في حاشية المخطوط: فلاة مهلكة.
قال ابن الأثير في "النهاية" (٢/ ١٤٣):الدو: الصحراء التي لا نبات بها.
والدوية منسوبة إليها وقد تبدل من إحدى الواوين ألف، فيقال: داوية على غير قياس.
* في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عز وجل، فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح ولكنه ليس كفرح المخلوقين.
الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفه يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء ولكن بالنسبة لله عز وجل، لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا فنقول هو فرح يليق به عز وجل مثل بقية الصفات، كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا، فله صفات لا تماثل صفاتنا، لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام.
ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثواب، لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثابته التائب. أو: إرادة الثواب لأنهم هم يثبتون أن لله تعالى مخلوقا بائنا منه هو الثواب ويثبتون الإرادة، فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق أو: إرادة الثواب.
ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة، مثلما أن المراد بالله عز وجل نفسه حقيقة ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبداً.
ويستفاد من هذا الحديث:
مع إثبات الفرح لله عز وجل وكمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده، حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة .... هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله
. يفرح الله به هذا الفرح العظيم.
ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنبا، تبنا إلى الله.
قال تعالى في وصف المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) أي فاحشة: مثل الزنى، اللواط، نكاح ذوات المحارم قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء:٢٢].
(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء:٣٢].
وقال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) [الأعراف:٨٠].
إذا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) ذكروا الله تعالى في نفوسهم، ذكروا عظمته، وذكروا عقابه وذكروا ثوابه للتائبين.
(فَاسْتَغْفَرُوا لذُنُوبِهِمْ) فعلوا ما فعلوا ولكنهم ذكروا الله في نفوسهم واستغفروا لذنوبهم.
قال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: ١٣٥].
فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له. لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة.
"شرح العقيدة الواسطية" (٢/ ١٩ - ٢١)