البحر من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها! والإبرة من أصغر الموجودات! مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء والله أعلم. انتهى.
أقول: انظر إلى هذا الكلام الفياض والعطاء الجم! فإن اجتماع جميع الإنس والجن، أولهم وآخرهم في مكان واحد، ثم تفضله عز وجل بإعطاء كل سائل مسألته على أي صفة كانت، وفي أي مطلب من المطالب اتفقت، كرم لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
ولعل المراد من هذا الإخبار الرباني لعبيده الضعفاء -الذين خلقهم وأحياهم ورزقهم ثم يميتهم ثم يحييهم الحياة الأبدية إنما لنعيم مقيم أو لعذاب أليم- هو تأكيد استغناءه عز وجل عنهم، وعدم حاجته إليهم، وأن من كان هذا شأنه يعطي جميع العالم من الإنس والجن -عند اجتماعهم المفروض أولهم وآخرهم- كل سائل مسألته، ولك مستعطٍ عطيته، هو ذا الغنى المطلق الذي لا يتعاظمه شيء، ثم ترغيبهم في سؤاله واستعطائه، وأنه عز وجل لا تفني خزائن ملكه، ولا تنقص بالعطاء بحار كرمه، ولا يؤثر فيها سؤال السائلين، وإن كانوا في الكثرة على هذه الصفة التي تقصر العقول عن الإحاطة ببعض البعض من أهل عصر من العصور، فكيف بجميع الناس من عند آدم إلى ما لا نهاية له معلومة لنا، فكيف إذا انضم إليهم الجن أولهم وآخرهم.
فسبحانه ما أعظم شأنه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، لا جرم إذا ضاقت أذهان العباد عن تصور كرمه وتفضله، فهو خالق الكل، ورب العالم، وليس عالم الإنس والجن بالنسبة إلى كل العالم من المخلوقات إلا القدر اليسير، وهو يعطي الكل الخير، لأنه إذا كان شأنه هذا الشأن العظيم من إعطاء السائلين، فهو قد تكفل لهم بأن يخلف عليهم ما أنفقوا كما قال في كتابه العزيز:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(١).