للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب ". ففيه دليل على أن الكذب قد كان قبل انقراض القرن الثالث، ولكن من غير فشو، ثم فشا بعده.

وبهذا [يعرف] (١) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد [أخبر] (٢) بأنه سيكذب عليه خصوصا، ويفشوا الكذب عموما، ثم وقع في الخارج ما أخبر به الصادق المصدوق، فإنه لم يزل في كل قرن من القرون كذابون يكذبون على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ويضعون الأكاذيب المروية عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحدثون بها. فلولا تعرض جماعة من حملة الحجة لجرح المجروحين، وتعديل العدول، وذبهم عن السنة المطهرة، وتبيينهم لكذب الكذابين، لبقيت تلك الأحاديث المكذوبة من جملة الشريعة، وعمت بها البلوى. فكان قيام الأئمة - في كل عصر - بهذه العهدة من أعظم ما أوجبه الله على العباد، ومن أهم واجبات الدين، ومن الحماية للسنة المطهرة، فجزاهم الله خيرا وضاعف لهم المثوبة؛ فلقد قاموا قياما مرضيا، وخلصوا عباد الله من التكاليف بالكذب، وصفوا الشريعة المطهرة، وأماطوا عنها الكدر والقذر، وأخرسوا الكذابين، وقطعوا ألسنتهم وغلغلوا رقابهم، والحمد لله على ذلك (٣).

وهكذا جرح الشهود وتعديلهم، فإنه لو لم يقع ذلك لأريقت الدماء وهتكت الحرم، واستبيحت الأموال بشهادات الزور، التي جعلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أكبر الكبائر، وحذر منها.

والحاصل: أن كليات الشريعة وجزئياتها وقواعدها وإجماع أهلها، تدل أوضح دلالة


(١) في (ب) تعرف.
(٢) في (ب) أخبرنا.
(٣) قال الإمام الحافظ ابن الصلاح في " علوم الحديث " (ص٣٨٩ - ٣٩٠): " الكلام في الرجال جرحا وتعديلا جوز؛ صونا للشريعة ونفيا للخطأ والكذب عنها، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ".
ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويتثبت ويتوقى التساهل؛ كيلا يجرح سليما أو يسم بريئا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، ويلحق المتساهل من تساهله العقاب والمؤاخذة.