للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يصح ذلك بوجه من الوجوه، على أنه إنما [سمي] (١) مجاهرا بمجاهرته بتلك المعصية والاستظهار بها بين الناس، وإيقاعها علانية، وعند ذلك يعلم الناس منه ذلك ويعرفونه بمشاهدته، فلا يبقى لذكره به كثير فائدة، وإن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به استعانة الذاكر على الإنكار عليه لمن يذكر له ذلك الذنب، فهذه الصورة داخلة في الصورة الثانية التي قدم النووي ذكرها، وقدمنا الكلام عليها، فلا فائدة لجعلها صورة مستقلة.

فإن استدل مستدل على جواز مثل هذا بما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " بئس أخو العشيرة " (٢). فيقال له: أولاً: إن هذا القول الواقع منه - صلى


(١) في (ب) سمى.
(٢) أخرجه البخاري رقم (٦٠٥٤) ومسلم رقم (٧٣/ ٢٥٩١) عن عائشة قالت: أن رجلا استأذن على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة ". فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ فقال: " يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه ".
قال الخطابي: " جمع هذا الحديث علما ودبا، وليس في قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته؛ ليسلموا من شره وغائلته.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (١٠/ ٤٥٤) تعليقا على كلام الخطابي: وظاهر كلامه - الخطابي - أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يختص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه.
قال القرطبي في " المفهم " (٦/ ٥٧٣): جواز الغيبة: المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب بدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، ولكن يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى.
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (٨/ ٦٣ - ٦٣): هذا من المداراة وهو بذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين، وهي مباحة مستحسنة في بعض الأحوال، خلاف المداهنة المذمومة المحرمة، وهو بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا بذل له من دنياه حسن عشرته، ولا سيما كلمته وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول ولا روي ذلك في حديث، فيكون خلاف قوله فيه لعائشة.
وانظر: " فتح الباري " (١٠/ ٤٥٣).
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم " (٨/ ٦٢): وهذا الرجل هو عيينة بن حصن، وكان حينئذ لم يسلم - والله أعلم - فلم يكن القول فيه غيبة، أو أراد - عليه الصلاة والسلام - إن كان قد أظهر الإسلام أن يبين حاله؛ لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كان منه في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده من هذه الأمور ما دلت على ضعف إيمانه.
قال الحافظ في " الفتح " (١٠/ ٤٧١ - ٤٧٢) وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجهه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة.
والجواب: أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، إذا استثني منه ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. وقوله في الحديث: " إن شر الناس " استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته.
ويستنبط منه - الحديث - أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه في ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة. قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها: كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به، وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة. . . ".