للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وحينئذ لم يبق لتلك الأسماء فائدة؛ لأن المقصود منها أن يتميز بها صاحبها عن غيره، ولم يحصل هذا الذي هو المقصود بها. بل إنما حصل من اللقب، فكان هو الاسم المميز في الحقيقة، فلم يكن ذلك من التنابز بالألقاب.

[خاتمة الرسالة]

فاعرف هذا وتدبره، فإنه نفيس، وبه يندفع ما تقدم من إيراد ما جرى عليه [عمل] (١) أئمة الرواية.

وهكذا يرتفع الإشكال عن القارئ لتلك الكتب، ولا يقال له: إنه يروي [الألقاب] (٢)، ويغتاب أهلها بقراءتها في كتب السنة.


(١) زيادة من (أ).
(٢) في (ب): بالألقاب.
قال الغزالي في " الإحياء " (٣/ ١٤٤): اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم؛ لأن فيه تفهيم نقصان أخيك وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
اعرف الأسباب الباعثة على الغيبة تصفو نفسك وتطهر:
١ - أن يشفي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفي بذكر مساويه، فيسبق إليه بالطبع إن لم يكن دين وازع، وقد يمتنع من تشفي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
٢ - موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض غير أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويرى في ذلك المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة.
٣ - أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطول لسانه عليه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول، ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله، فكان كما قلت.
٤ - أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فبذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل، فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
٥ - إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره.
٦ - الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه.
٧ - اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه النكير والعجب.
٨ - السخرية والاستهزاء استحقارا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري أيضًا في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزئ به، وهناك أسباب خاصة فهي أغمض وأدق تلك الأسباب؛ لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير، ولكن شاب الشيطان بها الشر.
١ - ): أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول: ما أعجب ما رأيت من فلان، فإنه قد يكون صادقا ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان في حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه، فيسهل عمل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتابا وآثما من حيث لا يدري.
٢ - ): الرحمة، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلى به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقا في دعوى الاغتمام، ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره، فيصير به مغتابا، فيكون غمه ورحمته خيرا، وكذا تعجبه، ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل ثواب الاغتمام وترحمه.
٣ - ): الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه، فيظهر غضبه أو يذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهر على غيره أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء.
انظر مزيد تفصيل: " إحياء علوم الدين " (٣/ ١٠٨ - ١٦١) كتاب آفات اللسان.
واعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله ". أخرجه مسلم رقم (٢٥٦٤) من حديث أبي هريرة.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (٦٧) ومسلم رقم (١٦٧٩) عن أبي بكرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته في حجة الوداع: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (١١) ومسلم رقم (٤٢) عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (٦٤٧٤) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة ". وقد ذكر قوله - عز وجل -: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: ١٨].