للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا البحث، لا لما ذكره العلم - حفظه الله - من أن الغرض من إيراده بيان أن القيام محمول على القيام في حال القعود؛ فإنه يأباه لفظ " خرج " المقيد بـ " متوكيا "، المعلق عليه، فقال: بالفاء التي هي غالبة في الفوز [٣]، ويشهد له أيضًا حديث: " من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " (١) فإنه محمول على التعظيم حمل المطلق


(١) تقدم وهو حديث صحيح.
قال الخطابي: ". . . وفيه قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات، ومعنى حديث: " من أحب أن يقام له " أي: بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة. ورجح المنذري الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس.
وقد رد ابن القيم في (٨/ ٨٥ - حاشية مختصر السنن) على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما؛ ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل، وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل.
قال ابن القيم: والقيام ينقسم على ثلاث مراتب:
١ - قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة.
٢ - قيام إليه عند قدومه ولا بأس به.
٣ - قيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه.
قال البخاري: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (٦٦٨٠) عن أنس قال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهو قعود ".
- وما أخرجه مسلم رقم (٤١٣) من حديث جابر وفيه: " إن كنتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود ".
وحكى المنذري قول الطبري: وأنه قصد النهي عن من سره القيام له لما في ذلك من حمية التعاظم ورؤية منزلة نفسه، ورجح ذلك النووي.
وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: أن الأصح والأولى بل الذي لا حاجه إلى ما سواه أن معناه زجر المكلف أن يحب قيام الناس له. وقال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه حمية القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم، سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام.
واعتراض ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام للذي يقام له في المحذور. فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك. وكذا قال ابن القيم في " حواشي السنن ": في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته؛ لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له.
ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره، كأهل الدين والخير والعلم، أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم، أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه. فلولا اعتبار القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر، وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام.
قال ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المحذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس -: " إنما أهلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود ". وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به.
قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بذلك ما تقدم، كالتهنئة لمن حدثت له نعمة، أو لإعانة العاجز، أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك.
وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه، وعلى سبيل الإكرام لا يكره.
" فتح الباري " (١١/ ٥٣ - ٥٤).