ولما كان الأمر هكذا بلا شك ولا شبهة عند كل من له تعلق بالعلم وملابسة المطهرة، وكان ذلك من قطعيات الشريعة وضروريات الدين - فكرت في ليلة من الليالي في هذه الفتن، التي قد نزلت بأطراف هذا القطر اليمني، وتأججت نارها، وطار شررها، حتى أصاب كل فرد من ساكنيه منها شواظ، وأقل ما قد نال من هو بعيد عنها ما صار مشاهدا معلوما، من ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب الرزق، وتحقر المكاسب، حتى ضعفت أحوال الناس، وذهبت تجارتهم ومكاسبهم، وأفضى ذلك إلى كساد كثير من الأملاك، وعدم نفاق نفائس الأموال، وحبائس الذخائر.
ومن شك في هذا، فلينظر [٢أ] فيه بعين البصيرة، حتى ترتفع عنه ريب الشك بطمأنينة اليقين، هذا حال من هو بعيد عنها لم تطحنه بكلكلها، ولا وطئته بأخفافها.
وأما من قد وفدت عليه وقدمت إليه، وخبطته بأسواطها، وضغمته بأنيابها، وأناخت بساحته، كالقطر التهامي وما جاوره، فيالله! كم من بحار دم أراقت، ومن نفوس أزهقت، ومن محارم هتكت، ومن أموال أباحت، ومن قرى ومدائن طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها، بعد أن تعطلت الصوائح، وناحت بعرصاتها المقفرة النوائح.
فلما تصورت هذه الفتنة أكمل تصور - وإن كان متقررة عند كل أحد أكمل تقرر - ضاق ذهني عن تصورها، فانتقلت إلى النظر في الأسباب الموجبة لنزول المحن، وحلول النقم من ساكني هذا القطر اليمني على العموم من غير نظر إلى مكان خاص أو طائفة معينة، فوجدت أهله - ما بين صعدة وعدن - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: رعايا يأتمرون بأمر الدولة، وينتهون بنهيها، لا يقدرون على الخروج عن كل ما يرد عليهم من أمر أو نهي، كائنا ما كان.
القسم الثاني: طوائف خارجون عن أوامر الدولة متغلبون [٢ب] في بلادهم.
الطائفة الثالثة: أهل المدن، كصنعاء وذمار، وهم داخلون تحت أوامر الدولة، ومن جملة من يصدق على غالبهم اسم الرعية، ولكنهم يتميزون عن سائر الرعايا بما سيأتي