للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما الكاتب:

فليس له من الأمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا، وليس جمعه لهذا الديوان لقد الإنصاف للرعايا، ولا للتخفيف عليهم، بل المقصود من وضعه أن لا يكتم العامل من تلك الأموال التي اجتاحها [٥أ] والمظالم التي احتجنها حتى يشاركه فيها غيره، ويواسيه بدينه من نال منها نصيبا ممن يده فوق يده.

وأما ثالث الثلاثة، وهو القاضي:

فهو عبارة عن رجل جاهل للشرائع، إما جهلا بسيطا، أو جهلا مركبا، وإن اشتغل بشيء من الفقه، فغاية ما يظفر به منه هو ما يظفر وكيل الخصومة، ومن يمارس الحضور في مواقف الخصومات من مسائل تدور في الدعوى والإجابة، وطلب اليمين والبينة، وليس له من العلم غير هذا لا يعرف حقا ولا باطلا، ولا معقولا ولا منقولا، ولا دليلا ولا مدلولا، ولا يعقل شيئا من علوم الشرع، فضلا عن غيرها من علوم العقل، ولكنه اشتاق إلى أن يدعى قاضيا، ويشتهر اسمه في الناس، ويرتفع بين معارفه وأهله، فعمد إلى الثياب الجيدة فلبسها، وجعل على رأسه عمامة كالبرج، وأطال ذيل كمه حتى صار كالخرج، ولزم السكينة والوقار واستكثر من قوله: " نعم" و"يعني"، وجعل له سبحة طويلة يديرها في يده.

ثم جمع له من الحطام قدرا واسعا، وذهب به يدور في الأبواب ويتردد في السكك واستعان بالشفعاء [٥ب] بعد أن أرشاهم ببعض من ذلك المال ليشتروا له هذا المنصب الجليل (١) الذي هو مقعد النبوة، ومكانا فيه يترجم عن كتاب الله وسنة رسوله، ويفصل


(١) وليحذر أمثال هؤلاء قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة".
أخرجه البخاري رقم (٧١٤٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" من حديث أبي هريرة.
أخرجه أحمد (٢/ ٢٣٠، ٣٦٥) وأبو داود رقم (٣٥٧١، ٣٥٧٢) وابن ماجه رقم (٢٣٠٨) والترمذي رقم (١٣٢٥) وقال \ حديث حسن غريب، وهو حديث صحيح.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (١٨٢٥) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: " إنك ضعيف، وإنها أمانة، إنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ".
قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (١٢/ ٢١٠، ٢١١) هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة وأما من كان أهلا لها وعدل فيها فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها، فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب، وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه. . . ".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (٧١٤٩) ومسلم رقم (٤/ ١٧٣٣) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله لا نولي هذا الأمر أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه ".
وانظر شروط القاضي العادل في "تبصرة الحكام" (١/ ٢٤ - ٢٥)، " الأحكام السلطانية" (ص٦٢) "المجموع" للنووي (١٨/ ٣٦٣)