للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الناس، فيجمع بين الأمرين.

فإن قلت: قد ورد تفضيل قليل الصدقة على كثيرها باعتبار الأشخاص كما في حديث: " سبق درهم ألف درهم " (١)، وذلك في من يكون له درهم فيتصدق به،


(١) أخرجه أحمد (٢/ ٣٧٩) وابن ماجه رقم (٣٦٨٤) والنسائي (٥/ ٥٩) وابن خزيمة رقم (٢٤٤٣) وابن حبان رقم (٣٣٣٦) والحاكم (١/ ٤١٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبق درهم مائة ألف درهم " فقال رجل، وكيف ذاك يا رسول الله قال: " رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ".
وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في " المفهم " (٣/ ٨٠ - ٨١) قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " أي: ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال. وقال الخطابي: أي متبرعا أو عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب، والتأويل الأول أولى غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار، إذ قال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة) [الحشر: ٩].
وقد روي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوم صبيته وأطفأ السراج.
وآثر الضيف بقوتهم، وكذلك قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان: ٨].
أي: على شدة الحاجة إليه والشهوة له، ولا شك أن صدقة من هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذر: " أفضل الصدقة جهد من مقل " وفي حديث أبي هريرة: " سبق درهم مائة ألف " قالوا: وكيف؟ قال: " رجل له درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مئة ألف فتصدق بها ".
فقد أفاد مجموع ما ذكرنا: أن صدقة المؤثر والمقل أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " على تأويل الخطابي فأما على ما أولنا به الغنى فيرتفع التعارض.
وبيان: أن الغنى يعني به في الحديث: حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية، كالأكل عند الجوع والمشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى. وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدق، بل يحرم. وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك أدى إلى هلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل. لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدة المشقة.
وانظر " فتح الباري " (٣/ ٢٩٦).
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (٧/ ١٢٤ - ١٢٥): معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا، فإنه لا يندم عليها بل يسر بها، وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله؛ فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون؛ بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر فإن لم تجتمع هذه الشروط؛ فهو مكروه.
وقال القاضي: جوز العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يرد جميعها وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكي عن مكحول قال أبو جعفر الطبري: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث.
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (٧/ ١١٠): قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
قلت: - القرطبي - وهذا ضعيف. يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا كله. . .
قال السدي: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.