للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكتب الأصولية (١) بما يغني عن السؤال, ويرفع الإشكالَ, هذا إذا أراد بقوله مَنْ وضَعَ


(١) اختلف في ذلك على أقوال:
الأول: أن الواضع هو الله سبحانه وإليه ذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك.
الثاني: أن الواضع هو البشر وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة.
الثالث: أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه والباقي بالاصطلاح.
الرابع: أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيفٌ. وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. وقيل إنه قال بالذي قبله.
الخامس: أن نفس الألفاظ دلّت على معانيها بذاتها وبه قال عبّاد بن سليمان الصُّيمريُّ.
السادس: أنه يجوز كلُّ واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب "المحصول" ـ الرازي (١/ ١٨١ـ ١٨٢). احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول:
أما المنقول فمن ثلاثة أوجه:
الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: ٣١]: دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت في الأسماء ثبت في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق, وأيضًا الاسم إنّما سمِّى اسمًا لكونه علامة على مُسمّاه والأفعال والحروف كذلك. وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى ذم قومًا على تسميتهم بعض الأسماء من دون توقيفٍ بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:٢٣]. فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذمُّ.
الثالث: قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:٢٢].
المرادُ اختلاف اللغات لا اختلاف تأليفات الألسُن.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره, وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة. وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقف وهو المطلوب.
الثاني: أنها لو كانت بالمواضعة لجوَّز العقل اختلافها وأنها على غير ما كانت عليه لأن اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها.
وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} بأن المراد بالتعليم الإلمام كما في قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:٨٠]
أو يعلمكم ما سبق وضعه من خلق آخر, أو المراد بالأسماء المُسميّات بدليل قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ}.
ويحاب عن الاستدلال بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: ٢٣] بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي, ووجه الذم مخالفةُ ذلك لما شرعه الله.
وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم:٢٢] بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها.
ويجاب عن الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل, لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمَّى, ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك.
ويجاب عن الوجه الثاني بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر, ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ولم يثبت ذلك. ويمكن أن يقال إن آدم عليه السلام علَّمها غيره وأيضًا يمكن أن يقال إن التعليم لا ينحصر في الإرسال لجواز حصوله بالإلهام وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية, بل هى من وضع البشر بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع.
احتج أهل القول الثاني: بالمنقول والمعقول:
أما المنقول فقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:٤] أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدُّم اللغة على بعثة الرُّسل, فلو كانت اللغة توقيفية لم يُتصوًّر ذلك إلا بإرسال فيلزم
الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها.
وأجيب بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدَّور, لأن الإرسال عليه وأجيب بأن آدم عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية، وإذا كان هو الذي علَّمها لأقدم رسول اندفع الدور.
وأما المعقول: فهو أنها لو كان توقيفية لكان إما أن يقال إنّه تعالى يخلُق العلم الضروريّ بأن وضعها لتلك المعاني أولاً يكون كذلك.
والأول لا يخلو، إما أن يقال خلق ذلك العِلم في عاقل أو في غير عاقل، وباطلٌ أن يخلقه في عاقل لأن العلم بأنه سبحانه، وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه، فلو كان ذلك العلم ضروريًا لكان العلم به سبحانه ضروريًا، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضروريًا لبطل التكليف. لكن ذلك باطل لما ثبت أن كلَّ عاقل يجب أن يكون مكلفًا، وباطلٌ أن يخلقه في غير العاقل لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالمًا بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة.
احتج أهل القول الثالث: بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يُعرَّف كل واحدٍ منهم صاحبه وما في ضميره. فإن عرَّفه بأمر آخر اصطلاحيِّ لزم التسلسل فثبت أنّه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغاتٌ كثيرةٌ بسبب الاصطلاح بل ذلك معلومٌ بالضرورة، فإن الناس يُحْدثون في كل زمان ألفاظًا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك. وأجب بمنع توقفهِ علي الاصطلاحِ، بل يعرف ذلك بالترديد والقرائنِ كالأطفال.
وأما أهل القول الرابع: فعلهم يحتجُّون علي ذلك بأن منهم ما جاء توقيفًا لا يكون إلا بعد تقدّم الاصطلاح والمواضعة، ويجاب عنه بأن التعليم بواسطة أو بإلهام يغني عن ذلك.
واحتج أهل القول الخامس: بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسمَّيات مناسبة. بوجه ما لكان تخصيصُ الاسم المعيَّن للمسمَّي المعيَّن ترجيحًا بدون مرجِّح وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب، وأجيب بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه كان تخصيص الاسم المعيَّن بالمسمي المعيَّن كتخصيص وجود العالم بوقت معيَّن دون ما قبله أو ما بعده، وأيضًا لو سلمنا أنه لا بد من المناسبة المذكورة بين الاسم والمسمَّي كان ذلك ثابتًا في وضعه سبحانه وإن خفي علينا، وإن كان الواضع البشر فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمَّي ولدَه باسم خاص.
واحتج أهل القول السادس: علي ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها الناقلون لا يفيد شيء منها القطع، بل لا ينتهض شيء منها لمطلق الدلالة، فوجب عند ذلك الوقف، لأن ما عداه هو من التقول علي الله بما لم يقلْ وأنه باطلٌ. قال الشوكاني في (إرشاد الفحل) (ص٨٤): و (وهذا هو الحق).
انظر: (الكوكب المنير) (١/ ٩٧، ٢٨٥)، (المزهر) (١/ ٢٧). و (جامع البيان) للطبري (١/جـ١/ ٢١٥)، (سلاسل الذهب) (١٦٣)، (الخصائص) لابن جني (١/ ٤٧).