للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا مما يوضح لك سِرَّ ما أسلفنا في الاشتقاق، وتبيّن لك أن العربَ لا يجعلون فعلاً من الأفعال أو اسمًا من الأسماء موافقًا لفعل أو اسم آخرَ على الصفة التى قدمنا [٩ب] إلاَّ وقد راعَوا معنًي يجمعُهما قريبًا أو بعيدًا فإنهم قد راعَوا ذلك في الألفاظ التي ليس بينها من الاتصال والعلاقةِ ما بين ما يصدُق عليه مسمَّى الاشتقاقِ من الألفاظ كما قدمنا الإشارةَ إليه بل لقد وقعت المُراعاةُ منهم لما هو دون ما ذكرنا فإنهم قد قابلوا الألفاظَ بما يشاكل أصواتَها من الأحداث [فيجعلون كثيرًا] (١) أصواتَ الحروفِ على سمْت الأحداثِ المعبَّرِ بها [عنها فيجد قوّتَها بها] (٢) كقولهم خَضم وقَضِم فالخضْمُ لأكل الشيء الصُّلْب اليابسِ نحوُ قضِمَت الدابّةُ شعيرَها، ومنه قولُهم (قد يُدْرك الخَضْمُ بالقضْم) أي قد يُدرك الرخاءُ بالشدة واللينُ بالشظف، ومنه قول أبي الدرداء يخْضِمون ونقْضَم، والموعِدُ الله (٣) فاختاروا الخاءَ لرَخاوتها للرَّطْب والقافَ لصلابتها لليابس فحَذَوا بمسموع الأصواتِ على خَذْو محْسوسِ الأحداث.

ومن ذلك قولُهم النضْحُ بالمهملة للماء الخفيف لدقّةِ الحاء المُهْمَلة وجَعلوا النضْخَ بالخاء المُعجمة لما هو أقوى منه لِغِلَظ الخاء المُعْجمة.


(١) ولعلها: (وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون) كما في الخصائص (٢/ ١٥٧).
(٢) والعبارة كما في (الخصائص) (٢/ ١٥٧): فيعدّلونها بها، ويختذونها عليها. وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره.
(٣) قال ابن الأثير في (النهاية) (٢/ ٤٤) (خضم) في حديث علي رضي الله عنه: فقام إليه بنو أميّة يخضمون مال الله خضم الإبل نبته الرَّبيع).
الخضم: الأكل بأقصى الأضراس، والقضم بأدناها: خضم يخضم خضمًا.
ومنه حديث أبي ذر: «تأكلون خضمًا ونأكل قضمًا».
وفي حديث أبي هريرة: «أنّه مرَّ بمروان وهو يبني بنيانًا له، فقال: ابنوا شديدًا وأمّلوا بعيدًا، واخضموا فستقضموا».