للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن ذلك قولُهم القَدُّ طُولاً والقَطّ عَرْضًا وذلك لأنّ الطاء أخصَرُ للصوت وأسرعُ قطْعًا له من الدال فجعلوا الطاءَ المتأخِّرة لقطع العَرْض لقُربه وسُرعتِه والدالَ لِما طَالَ من الأثَر وهو قطْعُه طولاً.

ومنه قولُهم قَرَتَ الدمُ وقَرِدَ الشيءُ وتقرَّد، وقرَط يقرُط فالتاء أخفّ الثلاثةِ فاستعملوها في الدم إذا جفّ لأنه قَصْدٌ ومستخَفٌّ في الحِس (١) وقرِد من القَردَ لما يُخفى صوتَه، ويقال من القرْد وذلك لأنه موصوفٌ بالقِلّة والذِّلة. قال الله سبحانه: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (٢) [وجعلوا الطاءَ وهي أعلى الثلاثةِ صَوْتًا للقَرْط الذي يُسمع]. (٣)

ومن ذلك قولُهم الوسيلةُ والوَصيلة، فالصاد أقوى من السين لِما فيها من الاستعلاء فكانت الوصيلةُ أقوى من الوسيلة وذلك أن التوسّلَ ليست له عِصْمة الوصْلِ والصِّلة، لأن الصِّلةَ أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومُماسّتِه له وكونِه في أكثرِ الأحوال بعضًا له، كاتصال الأعضاءِ بالإنسان، وهي أبعاضُه، ونحوُ ذلكِ، والتوسُّلُ معنًى يضعُفُ ويصْغُر أن يكونَ المُتوسَّل إليه، وهذا واضح، فجعلوا الصادَ لقوتها للمعنى الأقوى والسينَ لضَعْفها عنها للمعنى الأضعفِ.

ومن ذلك قولهم خذا يخْذو بالواو لاسترخاء الأُذُن وخذأَ يخْذَأ بالهمزة للذل، والواو أضعفُ من الهمزة، واسترخاءُ الأُذنِ دون الذلِّ لأنّ الاسترخاء ليس من العيوب التي يُسَبُّ بها بخلان الذل (٤).


(١) قال في (الخصائص) (٢/ ١٥٨): عن القرْدد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتًا ـ للقرط الذي يسمع.
(٢) [البقرة: ٦٥].
(٣) موضعها بيناه آنفًا.
(٤) والعبارة في الخصائص (٢/ ١٦٠). ومن قولهم: (الخذا) في الأذن، و (الخذأ: الاستخذاء) فجعلوا الواو في خذواء ـ لأنها دون الهمزة صوتًا ـ للمعنى الأضعف. وذلك أن استرخاء الأُذن ليس من العيوب التي يُسبُّ بها ولا يتناهى في استقباحها. وأما الذل فهو من أقبح العيوب، وأذهبها في المزراة والسبّ فعبروا عنه بالهمزة لقوتها، وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها، فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين، وأضعفهما لأضعفهما.