ومن تأمَّل ما سبق عَلِمَ أن البلاغة أخصّ، والفصاحة أعم، وأنَّ كل ما يطلق عليه لفظ (البليغ) كلامًا كان أو متكلمًا يطلق عليه لفظ (الفصيح) يطلق عليه لفظ (البليغ) لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال، أو متكلم ذو ملكة يقتدر بها على الفصيح الغير المطابق لمقتضى الحال. وليعلم أن البلاغة يتوقف حصولها وتحققها على حصول أمرين: ١ ـ الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود، إذ ربما أدّى المعنى المراد بلفظ غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغًا. ٢ ـ تمييز الكلام الفصيح من غيره، إذ ربما أورد الكلام المطابق لمقتضى الحال غير فصيح، لاختلال ركن من أركان فصاحة الكلام فيه، فلا يكون بليغًا. فمسّت الحاجة إلى علمين يحترز بهما عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وعن التعقيد المعنوي المخلّ بفصاحة الكلام والأول منهما هو (علم المعاني) والثاني: (علم البيان) ويسمّيان بعلمي البلاغة. ولما كان (علم البديع) به تعرف وجوه تحسين الكلام جعل تابعًا لهذين العلمين، حتى تعرف طرق التحسين الذاتي بهما، والعرضيِّ به، فانحصر المقصود من علمي البلاغة وتوابعها في ثلاث فنون. (معجم البلاغة العربية) (ص٨٨). (٢) الإسناد الخبري: هو ضمّ كلمة أو ما يجري مجراها ـ كالجملة الواقعة موقع مفرد ـ إلى أخرى على وجه يفيد أن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، أو منفي عنه. نحو: (الحزم نافع) ونحو عليٍّ أخلاقه (حسنه) وعلي حسنته أخلاقه ونحو ما علي بخائن. وانظر مزيد تفصيل: (جواهر البلاغة) (ص٤٠). (٣) المسند يكون مفردًا لا جملة، لكونه غير سببي، ولم يقصد به تقوية الحكم نحو: (عليٌّ مسافر) فأما السببي نحو: (زيد أبوه منطلق) أو (انطلق أبوه) وما شاكل ذلك من كل جملة واقعة خبرًا عن مبتدأ يربطها به عائد غير مسند إليه في تلك الجملة، فيبقي جملة لتعينها في الإخبار، وكذلك ما قصد به تقوية الحكم، فلا يعدل عنه إلى المفرد، حتى لا تزول التقوية إذا أُفرد. ويكون المسند فعلاً تقييده على أخصر وجه مع إفادة التجدد بأحد الأزمنة الثلاثة: الماضي، وهو الزمان الذي قبل الذي أنت فيه. والمستقبل، وهو ما يترتب وجوده بعد هذا الزمان. والحال: وهو في عرف أهل العربية أجزاء متعاقبة من أواخر الماضي، وأوائل المستقبل، قد تطول وقد تقصر، بحسب اختلاف الفعل في نحو قولنا: (زيد يصلّي، أو يحجّ) مرادًا بذلك الحصول في الحال. ويكون اسمًا لإفادة الثبوت لأغراض تتعلق بذلك، كما في مقام المدح فقولنا: (زيد مكرم لضيفه) يدل على ثبوت أكرام الضيفان لزيد، من غير نظر إلى زمان ولا تجدد بعد عدم، ولا كذلك قولنا: (زيد أكرم أو يكرم ضيفه) فإنّه يدل علي حصول في الماضي، وثانيًا علي حصول في الحال أو في المستقبل بعد أن لم يكن. ويكون المسند جملة للأغراض الآتية: ١) تقوية ثبوت المسند للمسند إليه، أو نفيه عنه نحو: (زيد قام) ويختص التقوي بما يكون مسندًا إلى ضمير المبتدأ المعتد به كما في المثال السابق. وسبب التقوي تكرر الإسناد. ٢) كون المسند سببيًّا، نحو: (زيد أبوه قائم) و (عليّ أكرمته). ٣) كون المسند إليه ضمير شأن نحو: (هو الله أحد). ٤) إرادة التخصيص. نحو: أنا سعيت في حاجتك، فالتقوية وإن كانت حاصلة هنا ليست مقصودة لذاته. وتكون جملة المسند اسمية لإفادة الثبوت، وفعلية لإفادة التجدد والحدوث في أحد الأزمنة الثلاثة على أخصر وجه، وشرطية للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط في نحو: زيد إن تلقه يكرمك) أو إذا لقيته يكرمك فقد أخبرت أولاً بالإكرام الذي يحصل على تقدير اللقاء المشكوك فيه، وثانيًا بالإكرام الحاصل على تقدير وقوع اللقاء المحقق. ومواضع المسند ثمانية: ١ ـ خبر المبتدأ: نحو (قادر) من قوله: (الله قادر). ٢ ـ اسم الفعل: نحو هيهات، وَيْ، آمين. ٣ ـ الفعل التام: نحو (حضر) من قولك: حضر الأمير. ٤ ـ المبتدأ الوصف المستغني عن الخبر بمرفوعه: نحو (عارف) من قولك: (أعارفٌ أخوك قدر الإنصاف؟). ٥ ـ وأخبار النواسخ (كان ونظائرها) و (إنَّ ونظائرها). ٦ ـ والمفعول الثاني لظنَّ وأخواتها. ٧ ـ والمفعول الثالث لأرى وأخواتها. ٨ ـ والمصدر النائب عن فعل الأمر. انظر: (جواهر البلاغة) (ص٤١)، (معجم البلاغة العربية) (ص٢٨٦).