للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والبيان (١) والعلم الذي به تبين دقائق العربية وأسرارُها، وقد أوعت فيه أئمتُه بحيث لم


(١) البيان: لغة الكشف والتوضيح والظهور، وهو في الاصطلاح عبارة عن المنطق الفصيح المعبر عما في الضمير.
والبيان عند البلاغيين: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المعنى المراد، بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض. ?
وسمّي (علم البيان) لأن له مزيد تعلُّ بالوضوح والبيان، من حيث أن علم البيان يعرف به اختلاف طرق الدلالة في الوضوح والبيان.
وكثيرٌ من البلاغيين يسمَّي علوم البلاغة الثلاثة ـ المعاني والبديع ـ علم البيان، لتعلقها جميعًا بالبيان. وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير وبعضهم يسمي (البيان والبديع) تغليبًا للبيان المتبوع على البيان التابع. وهذا يقع كثيرًا في كلام الزمخشري في (الكشاف).
والفصاحة والبلاغة والبيان، ألفاظ تشترك في كثير من المعاني، ويختص كل واحد منها بما ليس للآخر.
لكن الفصاحة: أصلها الخلوص من الشوائب، لقولهم: أفصحَ اللبنُ وفَصحُ. إذا خلص من اللباء. وذلك في الكلام لا يكاد ينفك عن أن يكون بيّنًا. فالفصاحة أعم من البيان من وجه. والبيان أعمّ من الفصاحة من وجه.
فإنَّ البيِّن قد لا يكون كلامًا، والخالص من الشوائب قد لا يكون بيِّنًا. وكذلك البلاغة مع كل من الفصاحة والبيان، ومعنى البلاغة انتهاء الشيء إلى غايته المطلوبة، وكل واحد من الألفاظ الثلاثة يستعمل في الكلام وفي غيره.
والكلام في هذه المعاني الثلاثة هو بالنسبة إلى وقوعها في الكلام لا غير.
فالفصاحة تكون بالنسبة إلى اللفظ من وجهين:
أحدهما: أن يخرج المتكلم الحروف من مخارجها، ويخلّص بعضها من بعض.
الثاني: أن يكون اللفظ مما تداوله فصحاء العرب، وكثر في كلامهم.
وتكون الفصاحة أيضًا بالنسبة إلى المعنى وهو أن يكون الكلام مخلصًا من غيره.
والبلاغة تتعلق بالمعنى فقط، وهو أن يبلغ المعنى في نفس السامع مبلغة، ومما يعين على ذلك الفصاحة في كلام العرب، لا أن الفصاحة من أجزاء البلاغة فإنَّ الأعجمي إذا كلّم الأعجمي، فبلغ المعنى غاية مبلغه كان كلامه بليغًا. ووصف بالبلاغة، وكلامه ليس من كلام العرب.
والبيان في عرف الكلام أتمّ من كل واحد من الفصاحة والبلاغة، لأن كل واحد منهما من مادته، وداخل في حقيقته ولذلك قلنا (علم البيان) وتكلمنا فيه في الفصاحة والبلاغة وغيرهما، ولم يوضع علم للفصاحة، ولا علم للبلاغة.
والبيان عند البلاغيين ـ كم تقدم ـ علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. ?
فمثال إيراد المعنى بطرق مختلفة، في باب (الكناية) أن يقال في وصف زيد بالجود مثلاً: زيد مهزول الفصيل، وزيد جبان الكلب، وزيد كثير الرماد.
فهذه التراكيب تفيد وصفه بالجود على طريق الكناية، لأن هزال الفصيل إنّما يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف. وجبن الكلب ولا يتجاسر عليه، وهو معنى جبنه، وكثرة الرماد من كثرة الإحراق للطبائخ من كثرة الأضياف. وهي مختلفة وضوحًا، وكثرة الرماد أوضحها، فيخاطب به عند المناسبة كأن يكون المخاطب لا يفهم بغير ذلك. ?
ومثال إيراده بطرق (الاستعارة) أن يقال مثلاً في وصفه بالجود: رأيت بحرًا في الدار، في الاستعارة (التحقيقية وطم زيد بالإنعام جميع الأنام، في الاستعارة بالكناية، لأن الطموم، وهو الغمر بالماء من وصف البحر، فدلَّ على أنّه أضمر تشبيهه بالبحر في النفس، وهو الاستعارة بالكناية، ولجة زيد تتلاطم أمواجها. وذلك مما يدل علي إضمار التشبيه في النفس أيضًا وأوضح هذه الطرق الأوَّل، وأخفاها الوسط. ـ
ومثال إيراده في التشبيه أن يقال: زيد كالبحر في السخاء. وزيد بحر. وأظهرها ما صرَّح فيه بالوجه، وأخفاها ـ وهو أوكدها ـ ما حذف فيه الوجه والأداة معًا. فيخاطب بكل من هذه الأوجه في هذه الأبواب بما يناسب المقام من الخفاء والوضوح. ويعرف ذلك بهذا الفن.
ومما تقدم يعلم أن (البيان) يطلق على معنيين:
١): معنى أدبي واسع يشمل الإفصاح عن كل ما يختلج في النفس من المعاني والأفكار والأحاسيس والمشاعر بأساليب لها حظها الممتاز من الدقة والإصابة والوضوح والجمال، وهو بهذا التعميم يجمع فنون البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.
٢): معنى علمي محدود وهو التعبير عن المعنى الواحد بطريق الحقيقة أو المجاز أو الكناية، كما سلف.
وقد حصر البلاغيون أصول علم البيان في أربعة أصول هي:
١ ـ أصلان ذاتيان. وهما المجاز، والكناية.
٢ ـ أصل واحد وسيلة وهو التشبيه.
٣ ـ أصل واحد جزء من أصل، وهو الاستعارة.
انظر: (معجم البلاغة العربية) (١٠٠/ ١٠٣)، (الإيضاح في علوم البلاغة) للخطيب القزويني (ص٢٠١ ـ ٢٠٣)، (جواهر البلاغة في (المعاني والبلاغة والبديع) (ص١٩٧). ?
واعلم أنه واضع علم البيان أبو عبيدة الذي دوَّن مسائل هذا العلم في كتابه المسمَّى (مجاز القرآن) وما زال ينمو شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى الإمام: عبد القاهر، فأحكم أساسه وشيَّد بناءه، ورتَّب قواعده وتبعه الجاحظ وابن المعتز وقدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري.
وثمرته الوقوف على أسرار كلام العرب (منثوره ومنظومه) ومعرفة ما فيه من تفاوت في فنون الفصاحة، وتباين في درجات البلاغة التي يصل بها إلى مرتبة إعجاز القرآن الكريم الذي حار الجنُّ والإنس في محاكاته، وعجزوا عن الإتيان بمثله.
انظر: (جواهر البلاغة) (ص١٩٨).