للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فعلى هذا معنى قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قيامٌ منا بعذرِ أنفسِنا إلى الله تعالى، فإذا طُوْلِبْنَا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا، فنكون بذلك معذورينَ.

وقال الأزهري (١): (المعذرة اسمٌ على مَفعُلَة) من تعذَّر وأقيمَ مقامَ الاعتذار، كأنهم قالوا: موعظتُنا اعتذرٌ إلى ربنا، فأقيم الاسم مقامَ الاعتذار. يقال: (اعتذر فلان اعتذارًا وعذرًا ومعذرةً من ذنبِه [٢ب] (انتهى كلام الرازي في مفاتيح الغيب (٢).

فعرفتَ أن معنى المعذرةِ القيامُ بما أوجبه الله من نهي المنكر، وفعل ما يقوم بالعذر عند الله على وجه لا يكون للفاعل بعده خطابٌ من الله، لأنه قد أبدى عذرَه، وفعل ما يجب عليه، بخلاف التعذير، فإنه فِعْلُ ما لا يثبتُ به العذرُ، ولا يسقطُ به الغرضُ كما تقدم تحقيقُه وحينئذ يتبين أنه لا مخالفةَ بين الآيتينِ الكريمتينِ، ولا بين ما ذكره العلامة الزمخشريُّ (٣) في تفسيرهما، ويظهر أنه لم يشرْ بما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (٤) حيث قال: (نُهُوا عن المنكر تعذيرًا إلى الآية الأخرى ـ أَعني ـ قوله تعالي: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} لما قدمنا من التخالف بين معنى التعذير والمعذرةِ: بل هما ضدَّا لما عرفت من أن معنى المعذرة ثبوتُ العذر، ومعنى التعذيرِ عدمُ ثبوت العذر. (٥)


(١) في (تهذيب اللغة) (٢/ ٣٠٦).
(٢) (١٦/ ١٥٩).
(٣) في (الكشاف) (٢/ ١٠٠، ١٢٢).
(٤) [الأنفال: ٢٥].
(٥) قال الجوهري في (الصحاح) (٢/ ٧٤١): (كان ابن عباس يقرأ (وجاء المعْذِرون) مخففة من أعذر ويقول والله هكذا نزلت. قال النحاس إلا مدارها عن الكلبي وهي من أعذر ومنه قد أعذر من أنذر، أي قد بالغ في العذر من تقدّم إليك فأنذرك.
وأمَّا المعذّرون بالتشديد ففيه قولان:
أحدهما: أنه يكون المحقّ، فهو في المعنى المعتذر لأن له عذرًا فيكون المعذورون على هذه أصله المعتذرون. ولكن التاء قلبت ذالاً فأدغمت فها وجعلت حركتها على العين كما قرئ (يخصِّمون) بفتح الخاء. ويجوز (المعذِرون) بكسر العين لاجتماع الساكنين ويجوز ضمها اتباعًا للميم.
الثاني: أن المعذِّر على جهة المُفعِّل لأنه الممرّض والمقصّر يعتذر بغير عذر.
وقال غيره: يقال عذَر فلان في أمر كذا تعذيرًا، أي قصر ولم يبالغ فيه والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب.
قال الجوهري في (الصحاح) (٢/ ٧٤١) كان ابن عباس يقول: لعنَّ الله المعذِّرين، كأن الأمر عند أن المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر.
انظر: (جامع البيان) (٦ج١٠/ ٢٠٩ ـ ٢١٠).